الفقر، والأمومة والمشاعر
د. سنيال عثامنة | 01.02.2022 | تصوير: Unsplash
غياب الأمن، والتشكيك الذاتيّ، والخجل، والشعور بالذنب والهلع – هذه مشاعر مخصّصة لأبناء الطبقة العاملة. النساء من طبقة العمّال يتواصلن مع هذه المشاعر، كجزء لا يتجزأ من لقاء حقيقي أو متخيل مع بنات الطبقة الوسطى ومع النظرة الطبقية التي تطلق الأحكام، وتنفي سلوكهنّ بكل أبعاده، لا سيّما تصور المسؤولية الأموميّة.
جرت العادة على اعتبار المشاعر أمرا طبيعيا يتشارك فيه جميع بني البشر، لكن أحد الآليات المركزية لنسخ البنية الطبقية هو التخصيص التفاضليّ للمشاعر. عندما يحصل ربط للمشاعر المخصّصة طبقيا تكون النتيجة عدم قدرة النساء على الشعور بالراحة مع أنفسهن، على ضوء المعرفة بأن الآخرين انتقاديين تجاههن.
ضمان مستقبل أفضل
في بحثها لنيل شهادة الدكتوراه، فحصت د. سنيال عثامنة عملبة التحويل بين الأجيال بين أمهات وبنات عربيّات فلسطينيات يقبعن في دائرة الفقر في إسرائيل، في سياق الدلالات المنسوبة لعمل البنات مقابل الأجر في مرحلة الثانوية، واكتساب التحصيل العلميّ والزواج. فحصَ أحد أسئلة البحث كيف تشغّل الأمهات موارد المشاعر لديهن في سبيل عدم نسخ حياة الضائقة والفقر، وضمان مستقبل أفضل لبناتهن. بعادة، تفتقر الأبحاث التي تهتم بالفقر لهذه الجزئية.
من منظور العلاقات الطبقية، تقترح باحثات نسويات أن نلقي نظرة على حالات ترفض فيها نساء من الطبقة العاملة التعاون مع المشاعر المخصصة لهنّ، ويقمن بتطوير وجهة نظر نقديّة تجاه من يتموضعون في طبقات تحظى بالامتيازات. تطلق الباحثة بفيرلي سكيغس (Skeggs) على رفض تبني وجهة النظر التي ترفضهن اسم "سياسة مشاعر"، وتحلل بواسطة هذا المصطلح النّحوَ الذي يجري فيه صدّ تجارب ومشاعر سلبية قوامها الارتباك والخجل من قبل نساء من الطبقة العاملة: تبدل هؤلاء النساء المشاعر السلبية بمشاعر إيجابية وتمكينية نحو الافتخار والكرامة، والقيمة الذاتية، من خلال أطلاق أحكام قيَميّة بديلة، ومن خلال قيامهن بصد الامتيازات الطبقية للآخرين. هكذا على سبيل المثال، تحدّثت منيرة، وهي أم لخمسة أولاد، عن أنها تضطر للقيام بأعمال شاقة في مجال التنظيف والمصانع كي تصدّ إحساس الارتباك والخجل اللذان ينبعان من الديون المالية لزوجها:
أنا اعمل، ليس مجرد عمل، أقوم بعمل شاق ومنهِك، هل تعرفين لماذا؟ كي لا يأتوا ويقرعوا بابي ويطالبون بالديون. كم هو صعب عليّ أن يرى الجيران ويسمعون أننا مدينون بالأموال. أحاول قدر المستطاع المحافظة على كرامتي الذاتية وكرامة أبنائي، بأننا نتدبر أمورنا ولا ينقصنا شيء.
ممارَسات الأمومة
تُظهر نتائج البحث أنّ الأمهات العربيات الفلسطينيات من الطبقة العاملة تتآمرن على المعايير الاجتماعية، في سبيل التخلص من واقع الإقصاء والضائقة الاقتصادية. مثال واحد على الممارسة التي تطبقها النساء يتطرق لمراكمة رأسمال شعوري لدى بناتهن من خلال المتابعة والالتزام تجاه المدرسة. على سبيل المثال تصف أميرة وهي أم لستة أولاد كيف تحاول أن تنقل لابنتها شحنة رأسمال شعورية من خلال التشديد على أهمية التحصيل العلمي من خلال المحادثات والمتابعة مع المدرسة:
انظري إلى نسرين، هي الآن في المدرسة الثانوية. الجميع في المدرسة يعرفوني، لأنني أقوم بمتابعة علاماتها في الدبلوم والبجروت. لا تتوفّر إمكانية أن تنهي بدون بجروت وشهادة!!! وأن لا تواصل للدراسة في الجامعة. ماذا ستكون في المستقبل بدون شهادتها!! أجلس معها كثيرا وأتحدث معها عن المدرسة، وأحاول قدر الإمكان تشجيعها وإرشادها قدر استطاعتي!
شحنة رأس المال الشعورية تعتبر موردا شعوريا يدعم مواجهة التحدّيات والمعوقات الاجتماعية والاقتصادية. يعزز البحث علائقيّة هذا المفهوم بالنسبة لأمهات من الطبقة العاملة كذلك، كما جرى الادعاء في الماضي. انخراط الأمهات في المدرسة يساعد البنات على ترسيخ إحساس بالاحترام والقيمة الذاتية مقابل النظرة المدرسيّة والاجتماعية، بواسطة شحنة رأسمال شعورية. تطوير المناعة يمكّن البنات من التعامل على نحو ناجع وفعال أكثر مع الجهاز المدرسي.
أهمية التحصيل العلمي
مسار آخر هو مقاومة مفهوم السيكسيزيم المُحسِن (Benevolent Sexism) الذي ينمو من أبعاد بنيوية لعلاقات الرجال والنساء، ويصف النساء كمخلوقات طاهرة تحتاج للحماية، وما الزواج المبكّر إلا طريقا تشتق من هذا المفهوم. الأمهات في البحث (وبعضهنّ لم يحصلن حتى على تعليم ثانوي كامل)، يعملن ضدّ هذا التصور من خلال التشديد على أهمية التحصيل العلمي كوسيلة للحماية من المستقبل غير الآمن. طريقة العمل هذه تقوّض التوقع المجتمعي الذي يعتبر زواج الفتيات خطوة ضرورية من أجل ترسيخ الاحترام، حيث تشدّد الأمهات أمام البنات على أهميّة التحصيل العلمي، ويسوّغن الأمر على نحو يعزز احتمالات تأجيل الزواح. النشاط الذي تتخذه الأمهات داخل الحيز الاجتماعي والثقافي يصوغ ذاتيتهن التي تنقل لبناتهن على شاكلة مشاعر وتصورات وتماثلات.
نستخدم في مجموعة البحث "صندوق العدّة للذاتية السياسية النسوية" في معهد فان لير، مفهوم الذاتية السياسية، الذي يمكننا من فهم كيف يجري توجيه ممارسات عمل الأمهات (في تقاطع الطبقة، والجندر، والقومية-العرقية) من أجل خلق إحساس بالقيمة ورفض مشاعر الارتباك والخجل عند بلورة موقف الذات من قبلهنّ ومن قبل بناتهن.
مقطع للمشاهدة من مسلسل "قربة غربة" لمشاركي دفيئة السينما: أييلت بيخار، أحلام كنعان، ونيكولاس يعقوب (من الدقيقة 8:07 حتى الدقيقة 10:39).
ملخّص
يمكن القول في ملخص الأمر أنّ البحث يلقي الضوء على ديناميكية العلاقات بين الأمهات العربيات الفلسطينيات في إسرائيل وبناتهن، الطالبات في المدرسة الثانوية، ويُبرِزُ العلاقة بين الأمهات والبنات اللواتي يقبعن في الفقر، كتلك التي ترتكز على التبعية المتبادلة والمسؤولية والأخلاق، وهي أبعاد تؤسّس الذاتيّة السياسية. يمكّن أمر كهذا من إنتاج فكر يدفع نحو العمل السياسيّ على مستوى رسم السياسات – وهو عمل قد يفضي إلى تغيير في الدوائر العائليّة والاجتماعية، إذا ما جرت إتاحة الموارد المطلوبة للأمهات، وهي الموارد التي تمكّنهن من تحقيق القدرات الكامنة الشخصية والتعليمية لأبنائهن.
جرى عرض مزيد من التفاصيل حول البحث في ندوة أجريت في معهد فان لير بمناسبة افتتاح السنة الدراسية وجاءت بعنوان "ما بعد البنطلون القصير: حقيبة نسوية للسنة الدراسية".
كتابة: د. سنيال عثامنة، برنامج دراسات الجندر، جامعة بار إيلان؛ مشاركة في مجموعة البحث "صندوق العدة للذاتية السياسية النسوية"، معهد فان لير.