"لا يمكن البقاء، ولا المغادرة"
عبد أبو شحادة | 14.03.2023 | تصوير: من الفيلم
حول فيلم بلال يوسف:"חיים בצל המוות حياة في ظلّ الموت"
كتابة مقالة مقتضبة عن فيلم "حياة في ظلّ الموت" للمخرج بلال يوسف ليست بالتحدّي السهل؛ إذ يدور الحديث ظاهريًّا عن مَهَمّة تتطلّب منّي التطرّق إلى ظاهرة الإجرام في المجتمع العربيّ، لكن الفيلم يُفْلِح (على غرار الواقع) في عَرْض جملة من التعقيدات في العلاقة بين الدولة والمجتمع اليهوديّ من ناحية، والمجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل من الناحية الأخرى. في ما بين السطور، تتكشّف كذلك بعض أعراض الاحتلال الجانبيّة التي يجد المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل نفسه ملزَمًا بتسديد فاتورتها.
يختار المخرج التركيز على حياته الشخصيّة، ويجسّد بالتالي المزاج العامّ في المجتمع الفلسطينيّ: فمن ناحية، يعايش أبناء هذا المجتمع فقدان الأمن في أماكن سكناهم، لكنّهم في المقابل لا يستطيعون الانتقال للسكن في البلدات اليهودّية بسبب العنصريّة المكرَّسة قانونيًّا، والتي تُشَرْعِن ظواهر كمثل وجود لجان قبول للبلدات اليهوديّة، وبسبب عدم رغبة اليهود بعامّة في أن يجاورهم في السكن عربٌ.
للتجسيل المسبق لحضور الفيلم >
إنّها مشكلة الدولة
يُستهَلّ الفيلم بعرض البيانات الرسميّة، بغية تفسير الظاهرة للمُشاهد الإسرائيليّ العاديّ. البيانات لا تقبل التأويل، ويُستشَفّ منها أنّ نِسَب القتل في المجتمع العربيّ تحتلّ المراتب العليا في العالَـم مقارنة بحجم الفئة السكّانيّة، وهي أعلى حتّى من الأرقام التي في العالَـم العربيّ والضفّة الغربيّة وغزّة. تسعى هذه المقارنة إلى دحض الادّعاء أنّ الحديث يجري عن ظاهرة حضاريّة / ثقافيّة تمثّل الهُويّة العربيّة، وهو ادّعاء نما في داخل المنظومة الأخلاقيّة الإسرائيليّة التي لا تَعتبر العرب شعبًا مُحِبًّا للحياة. استخدام الأرقام والادّعاءات العقلانيّة تذكّر بنقدِ ما بعد الاستعمار، النقدِ الذي يُظهر أنّ الشعوب التي تخضع للاحتلال تؤمن أنّ المحتلّ سيغيّر رأيه بمجرّد أن يطّلع على البيانات والأرقام الموضوعيّة التي تكشف النقاب عن غياب العدل، وعن الغبن الذي يَلحَق بمن يقع تحت الاحتلال.
على المنوال ذاته يواصل الفيلم عرض مواقف خبراء واختصاصيّين يهود من المؤسّسة الأكاديميّة الإسرائيليّة وضبّاط متقاعدين من سلك الشرطة، لغرض عرض الظاهرة. يعرض الفيلم كذلك تحليلًا مُفادُهُ أنّ العنف يُعْزى إلى دخول عملاء فلسطينيّين (من الأراضي المحتلّة في العام 1967) إلى المجتمع العربيّ في إسرائيل، والنحو الذي تحوَّلَ فيه أبناء الجيل الثاني من هؤلاء العملاء (الذين وُلِدوا بدون مكانة قانونيّة واضحة أمام السلطات، والمنبوذين من قِبل المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل بسبب ما جناه آباؤهم) إلى لاعبين مركزيّين في عالم الإجرام العربيّ. يعرض الـﭘـروفيسور مناحيم هوﭘـنونـﭺ هذا التصوُّر خلال مقابلة معه في الفيلم من خلال التشبُّث ببيانات يغيب عنها التفسير، وبحسبها قام عدد من القضاة بإطلاق سراح هؤلاء المجرمين أو بتخفيف الحكم عنهم بسبب تدخُّل جهاز المخابرات العامّة ("الشاباك").
علاوة على ذلك، يُدْلي الضابط المتقاعد وقائد محطّة تل أبيب سابقًا نيسيم داﭬـيدي بشهادة مُفادُها أنّ مخابرات الشرطة تعرف جيّدًا ما يحدث داخل منظّمات الإجرام التي تعمل داخل المجتمع العربيّ، لكنّها تختار البقاء مكتوفة الأيدي. هذه الشهادة ترسم خطوطًا واضحة للموقف المضطرب الإسرائيليّ تجاه كلّ ما يحصل في المجتمع العربيّ. مقابل الاختصاصيّين والخبراء الذين يقولون بصريح العبارة إنّ المسؤوليّة في هذا الموضوع تقع على عاتق الدولة، تظهر في الفيلم شخصيّات يهوديّة تُوجِّه إصبع الاتّهام إلى المجتمع العربيّ وتتجاهل مسؤوليّة الدولة. يُستشَفّ من بين السطور أنّ الإجرام في المجتمع العربيّ هو شرّ لا بدّ منه في سبيل المحافظة على الواقع المركّب لأغلبيّة يهوديّة لا تَعتبر أبناء الجمهور العربيّ مواطنين متساوين، ولاحتلال عسكريّ لملايين الناس على امتداد أكثر من نصف قرن، وهي مهَمّة تتطلّب تجنيد متعاونين وعملاء لم تقرّر الدولة بعد بشأن مكانتهم المدنيّة.
عند هذه النقطة يرجع الفيلم إلى الحيّز الخاصّ ويُظهِر كيف تجد عائلة عربيّة عاديّة نفسَها بين المطرقة والسَّندان، إذ تحوّلت القرى والمدن العربيّة إلى حيّز غير آمن، لكن البلدات اليهوديّة ترفض استيعاب العائلات العربيّة. تَحَوَّلَ الخوف والقلق وانعدام اليقين إلى حالة روتينيّة في صفوف الفتْية والشباب. في الفيلم مشهد يجسّد عبثيّة الوضع، يظهر فيه النائب إلعازار شطيرن (من حزب "يِشْ عَتيد") وهو يتهجّم على النائب أيمن عودة خلال نشاط احتجاجيّ على تقاعس الشرطة في معالجة الجريمة في المجتمع العربيّ، إذ واصل شطيرن خلال الاحتجاجات التي أدّت إلى إغلاق حركة السير في أحد الشوارع المركزيّة في اتّهام المجتمع العربيّ بأنّه مجتمع عنيف، ويقول للنائب عودة: "بدايةً عالِجوا القتل على خلفيّة شرف العائلة"! معنى هذا أنّه يُحظَر على المجتمع العربيّ -لكونه مجتمعًا عنيفًا-أن يحتجّ وأن يطالب الدولة (التي تتوافر لديها هي الصلاحيَات الشرعيّة لمعالجة العنف) بأن تعالج ظاهرة العنف والجريمة، ويُحظَر عليه كذلك أن يشتكي على ما آلت إليه أموره.
أزمة قوميّة وسياسيّة
يتمكّن فيلم بلال يوسف من رصد المشاعر القوميّة في مشكلة تبدو مدنيّة صِرفة؛ فمن قلب مشاعر الألم والإحساس بعدم اليقين يختار الجمهور العربيّ بصورة تكاد تكون طبيعيّة أن يرصد الظاهرة من منظار قوميّ. معنى هذا أنّ العنف لا ينبع من سوء تفاهم أو جهل، بل يشكّل إفرازًا متعمّدًا أنتجته الدولة ضدّ المجتمع العربيّ. وحتّى بدون مواقف المهنيّين اليهود من المؤسّسات الأكاديميّة الذين انتقدوا سياسة الدولة، وبدون الأرقام التي تجسّد حجم المشكلة، تستطيع شهادة أيّ فرد من المواطنين العرب أن تصف جذور المشكلة بدقّة تَفُوق تلك التي يعرضها أفضل الخبراء.
أودّ التلخيص بتناول الأمور التي يفتقر إليها الفيلم، وسأبدأ من أبسط الأمور إلى أصعبها. بداية، يشكّل غياب الأمل الذي يعرضه الفيلم مشكلة بحدّ ذاتها. فعلى الرغم من الصعوبات وغياب اليقين من خلال رسائل فقدان الأمل، ثمّة مخاطَرة متضمَّنة في التحوُّل إلى نبوءة تحقّق ذاتها، ولا سيّما على ضوء شهادة مخرج الفيلم بأنّ الهجرة أصبحت خيارًا واقعيًّا، أي نوعًا من الملاذ للطبقة الوسطى الفلسطينيّة في إسرائيل التي تستطيع أن تسمح لنفسها بالهجرة، هذا دون التطرّق إلى الحقيقة أنّ الهجرة هي امتياز غير مُتاح إلّا لميسوري الحال.
على الرغم من الصعوبات القائمة، يُلقى على عاتقنا نحن المثقَّفين والسياسيّين والفنّانين مسؤوليّةُ مواصلة النضال من أجل مستقبل أفضل.
الأمر الثاني الذي يفتقر إليه الفيلم، والذي يُعتبر أخطر من الأوّل، هو عدم التطرّق إلى الاستحقاقات الاجتماعيّة للجريمة. في كلّ عام يُقتَل المئات، ويُصاب ويُعتقل ويُبعَد آلاف آخرون. من المهمّ أن نلتفت إلى حقيقة أنّ معظم ضحايا الجريمة هم من الرجال، وأنّ غيابهم يخلق فراغًا في الخليّة الأُسَريّة، ولا سيّما شخصيّة الأب، وكلّما تفاقمت هذه المشكلة كبرَ مئاتُ الأيتام دون وجود شخصيّة أب فاعلة، وتحوّلوا إلى ما يسمّى "قبيلة فاقدي الأب" "the fatherless tribe"، قبيلة لا يعيش فيها أب يعلّم ابنه كيف يكون رجلًا بالمفهوم الذي يَعْرضه الشاعر الأمريكيّ من أصول أفريقيّة دانييل بيتي (Beaty) في إنتاجه الفنّيّ بشأن كيف يَكون المرء رجلًا مسؤولًا يؤدّي واجبه في المجتمع.
على الرغم من كلّ هذه الانتقادات، يسهم الفيلم إسهامًا إيجابيًّا في النقاش حول ظاهرة الجريمة، ومن المهمّ أن يواصل الفنّانون الفلسطينيّون إنتاج أعمال تكشف النقاب عن الأزمات السياسيّة التي يخوضها المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل، وتطرحها للنقاش العامّ.
يُعْرَض فيلم بلال يوسف حياة في ظلّ الموت في معهد ﭬـان لير يوم الثلاثاء الموافق لتاريخ 28.3.2023. بعد العرض مباشَرة، تُعْقَد ندوة بمشاركة فنّانين وباحثين في إطار سلسلة: دوكو-مطر: محادثات حول السينما الوثائقيّة الإسرائيليّة.
الكاتب عبد أبو شحادة: عضو المجلس البلديّ في تل أبيب يافا، يحمل الدرجة الجامعيّة الثانية (الماجستير) في العلوم السياسيّة، ويقدِّم المدوَّنة الصوتيّة (ﭘـودكاست) "الميدان" في موقع عرب 48 الإخباريّ.