نظرة توثيقيّة على النزاع: "كيف وصلنا إلى هنا؟"

د. إيلي أوشروﭪ | 22.12.2024 | تصوير: من مسلسل "قربة غربة"

קרוב רחוק

 سلسلة عروض أفلام ونقاشات في معهد ﭬـان لير في القدس، كانون الثاني-شباط 2025

يمكن لمشاهدة أفلام السلسلة في بداية العام 2025 أن تخلق إحساسًا غريبًا ينبع من الفجوة بين صدقِ الأفلام وتعاطيها المباشر مع الواقع الإسرائيليّ من جهة، والخطابِ الجماهيريّ العامّ الذي يُهَيْمِن خارج قاعة العرض من جهة أخرى. الأعمال جميعها تتميّز بعمليّة استقصاء جذريّة مفعمة بالفضول، بينما تضجّ القنوات التجاريّة والشبكات الاجتماعيّة بالإنكار والتبرير الأخلاقيّ. أحد الأسئلة المهِمّة التي تطرحها هذه الفجوة هي: هل كان بإمكان هذه الأفلام أن تُنتَج في المستقبل أيضًا؟

الأعمال الخمسة التي ستُعْرَض في سلسلة "كيف وصلنا إلى هنا -نظرة مستقبليّة على النزاع" جميعها حديثة، وعُرِضت لأوّل مرّة خلال العام 2024. الأعمال التي ستُعْرَض في معهد ﭬـان لير على امتداد خمسة أسابيع في كانون الثاني-شباط 2025 توثّق أبعادًا مختلفة لتاريخ وحاضر النزاع الإسرائيليّ-الفلسطينيّ.

"الحاكم" (دانئيل إلـْﭘـيلِـﭺ) هو الفيلم الأوّل في السلسلة، وهو بمثابة سيرة حميميّة لتسـﭬـي إلـْﭘـيلِـﭺ الطفل اليهوديّ الفقير الذي هاجر من بولندا، وتحوّل في سنّ مبكّرة جدًّا إلى موظَّف يركّز الكثير من القوّة بين يديه، ومهنته هي السيطرة على الفلسطينيّين. يسترجع فيلم "عَلَم أَسْوَد" إحدى أكثر جرائم الدولة بشاعةً في تاريخ إسرائيل، ألا وهي مجزرة كفر قاسم في العام 1956. "روابط القرى" (طال ميخائيل وداﭬـيد أوفيك) هو فيلم يعود بنا إلى قضيّة منسيّة من ثمانينيّات القرن الماضي، هي إقامة "روابط القرى" -أجسام لـِ "عملاء ومتعاونين" (وَفْق التعريف الفلسطينيّ) أُعِدّت كي تكون قيادة بديلة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، وهو المشروع الذي أُغلِق الستار عليه على نحوٍ كارثيّ.

 "قُربة غربة" هو مسلسل وثائقيّ-دراميّ من إنتاج هيئة البثّ العامّة " كان/مكان" يوثّق الخطوات الأولى والحذرة والمتردّدة التي يخطوها فلسطينيّون من مواطني إسرائيل (أو مقيمون فقط، كما في حالة الرسّام الشابّ علاء عطّون من القدس الشرقيّة) نحو مكان يخصّهم في المجتمع اليهوديّ. "دونم الجدّة" هو كوميديا تراجيديّة ينطلق فيها "ييرمي شيك بلوم" (شاب تل أبيبيّ بكلّ جوارحه) لاسترجاع دونم أرض في المناطق [المحتّلة]، ودون عمد يتحوّل هو نفسه إلى مستوطن.

مقطع تشويقيّ لفيلم "الحاكم"

رحلات شخصيّة وسياسيّة

ثمّة عدد من الموضوعات المشترَكة لهذه الأفلام: يمكن تعريف كلّ من الفيلمَيْن "الحاكم" وَ "دونم الجَدّة" بأنّهما رحلة شخصيّة لمخرِجَيْهما. دانئيل إِلْپيلِـﭺ هي مخرجة سينما شابّة وحفيدة الحاكم العسكريّ تسـﭬـي بطل الفيلم. تَحِيكُ إِلْپيلِـﭺ بدقّة ونجاح العلاقةَ بين مهنةِ الجَدّ كحاكم عسكريّ (وهو شخص يتصرّف كدكتاتور خارج بيته) من جهة، وعلاقاتِه العائليّة المهزوزة والفاشلة من جهة أخرى. يعرض الفيلم مسار صحوة الجدّ السياسيّة، ويصفه في النهاية كإنسان يعي عيوبه، ويسعى على نحوٍ غير مباشر إلى إظهار الحبّ لأفراد عائلته من خلال ما يمكن تعريفها بأنّها استقلاليّة رومانسيّة.

"يـيرمي شيك بْلُوم" هو شابّ تل أبيبيّ فاشل، ويعرّف نفسه بأنّه كان على الدوام يكاد يقطف النجاحات لكنّه يُخفِق المرة تلو الأخرى. الدونم الذي أورثته إيّاه الجدّة في قرية أرطاس الفلسطينيّة في المناطق [المحتلّة] يدفعه هو وأباه الذي يعمل طاهيًا منهَكًا في مطاعم تل أبيب إلى المضيّ في رحلة شائكة بين موظَّفين حكوميّين، ومحامين، ومستوطِنين محترفين، كي يعيدا لأنفسهما أملاكهما المنهوبة. سيعثر الباحثون الذين يهتمّون بالاستعمار الاستيطانيّ في هذا الفيلم على تطبيقٍ لائق للنظريّة على أرض الواقع، إذ يلفظ النظامُ التل أبيبيّ الرأسماليُّ بْلُوم وأباه (اللذَيْن لم يَعُدْ بمقدورهما تسديد أجر الشقّة التي يسكنان فيها)، فيجدان الهدوء والسَّكينة في المناطق [المحتلّة]. لكن الخروج من النظام الرأسماليّ إلى الطبيعة الخلّابة في تلال الضفّة الغربيّة يحمل أثمانًا باهظة، وهذا ما يبيّنه الفيلم في نهاية المطاف.

من فيلم "راية سوداء"
من فيلم "راية سوداء"

 

إرث الحكم العسكريّ

تتقاسم ثلاثة من الأفلام موضوعًا مشترَكًا هو الحكم العسكريّ الذي ساد في البلاد في فترة الأعوام 1948-1966، والذي يسود في الضفّة الغربيّة منذ العام 1967 حتّى يومنا هذا. في تشرين الأوّل من العام 1956، في الفترة التي شغل فيها تسـﭬـي إلْپيلِـﭺ منصب الحاكم العسكريّ في منطقة المثلّث، ارتكب جنود جيش الدفاع الإسرائيليّ مجزرة كفر قاسم التي راح ضحيّة لها 48 مواطنًا عربيًّا لم يتمكّنوا من العودة إلى منازلهم قبل بدء ساعة منع التجوال. تستعيد أييلت هيلر أحداث ذلك اليوم من زوايا مختلفة من خلال مدوّنة متضاربة يتحدّث فيها ناجون من المجزرة، ومؤرّخون، وبعض مرتكبي المجزرة (من خلال شهاداتهم التي جرى تمثيلها في المحكمة) حول تسلسل الأحداث. وعلى الرغم من الزوايا المختلفة التي يعرضها الفيلم، فإنّه لم يبقَ على الحياد، بل يبيّن كيف يمكّن جهاز الحكم العسكريّ من ارتكاب مثل هذه المجزرة.

الحكم العسكريّ واستحقاقاته البائسة يشكّلان كذلك خلفيّة فيلم ميخائيل وداﭬـيد أوفيك حول روابط القرى، وهي مؤسَّسات سعت الإدارة المدنيّة إلى إقامتها في الأراضي المحتلّة في مطلع ثمانينيّات القرن العشرين ابتغاءَ التغلُّب على شعبيّة منظّمة التحرير الفلسطينيّة الآخذة في الاتّساع. يركّز الفيلم على شخصيّة تحسين منصور، أحد رؤساء هذه الروابط، والذي هو في حقيقة الأمر أحد الناجين من هذا المشروع. لم يتحوّل أعضاء الروابط بعد إقامتها إلى أجسام مُعَدّة لزرع الشقاق في المجتمع الفلسطينيّ (بذريعة التطوير) فحسب، بل تحوّلوا كذلك إلى مليشيات فعليّة مسلَّحة بأسلحة إسرائيليّة. عندما قرّرت الحكومة الإسرائيليّة على حين غِرّة إلغاء مشروع روابط القرى، تخلّت عن رؤساء الروابط، فتعرّض الكثير منهم للاغتيال. حَظِيَ منصور بعفو معيّن، حيث قام أهل قريته (قرية عزّون) بإبعاده مع زوجته الطبيبة إلى قطعة أرض يملكها تبعد مسافة قصيرة عن القرية.

قوّة هذا الفيلم تظهَر -في ما تظهر-من خلال تعاكس مفاجئ: من ناحية، لا يستطيع رجال المخابرات الإسرائيليّة الذين أقاموا روابط القرى تحمُّل المسؤوليّة بشأن الضرر الذي كانوا شركاء مركزيّين في خلقه، حتّى بعد أربعة عقود، ويواصلون التعامل مع هذا المشروع على أنّه إهدار فرصة أو على أنّه مشروع سعى البعض (وليس من الواضح من هم هؤلاء البعض) إلى إفشاله، وليس مسارًا مصيرُهُ كارثيٌّ بالنسبة لشركائهم الفلسطينيّين. من ناحية أخرى، هنالك تحسين منصور الذي كانت جميع تقديراته حول المؤسَّسة الإسرائيليّة نوعًا من الوهم والسراب وأحلّت عليه كوارث مختلفة، لكنّه يتكشّف على الرغم من ذلك كإنسان مثقّف يحمل روح المؤرّخ الذي يتأمّل حالته من خارج ذاته كنوع من سخريات القدر. بهذا المفهوم، تبقى شخصيّته مبهَمة ومَشُوبة بالغموض، ومن هنا يشكّل اللقاء بمنتِجي الفيلم فرصة لاستقاء المزيد حول هذا الأمر.

 من فيلم "دونم الجدّة"
من فيلم "دونم الجدّة"

 

لقاء بين فلسطينيّين والمجتمع الإسرائيليّ

جميع الأفلام تتناول لقاءً لفلسطينيّين مع المجتمع الإسرائيليّ، ما عدا فيلم "دونم الجدّة". وبخلاف غالبيّة الأفلام التي تعالج عنفَ الاحتلال وأشكالًا مختلفة من الحكم العسكريّ، يوفّر مسلسل "قربة غربة" للمشاهدين فرصة التعرُّف على تجارب يوميّة لفلسطينيّين يَعْبرون الحدود في إسرائيل، كأنْ يَمضوا -على سبيل المثال-للدراسة في معهد للتمثيل، أو ينتقلون من القدس الشرقيّة إلى حيفا، أو يشترون شقّة في كرميئيل. يبدو ظاهريًّا أنّ الحديث يدور عن تنقُّلات تحصل في كلّ مجتمع متعدّد للقوميّات أو الديانات. تُذكِّر الأفلام الأخرى أنّه في أساس نضال المواطنين الفلسطينيّين لاقتطاع مكان لهم في المجتمع الإسرائيليّ يكمن عنف خطير لا يبدو أنّ وطأته ستخفّ أو تتلاشى، ومن المؤكَّد أنّه من الصعب التحدُّث عن أنّ الجروح التي تَسَبَّبَ فيها هذا العنف توشك على الشفاء أو الالتئام.

يمكن لمشاهدة أفلام السلسلة في بداية العام 2025 أن تخلق إحساسًا غريبًا ينبع من الفجوة بين صدقِ الأفلام وتعاطيها المباشر مع الواقع الإسرائيليّ، وبين الخطابِ الجماهيريّ العامّ الذي يُهَيْمِن خارج قاعة العرض. الأعمال جميعها تتميّز بعمليّة استقصاء جذريّة مفعمة بالفضول، بينما تضجّ القنوات التجاريّة والشبكات الاجتماعيّة بالإنكار والتبرير الأخلاقيّ. أحد الأسئلة المهمّة التي تطرحها هذه الفجوة هو: هل كان بإمكان هذه الأفلام أن تُنتَج في العام 2025 أيضًا؟ هل ستحظى بميزانيّات وتتزيّن بِشارةِ البثّ العام للقناة الثامنة أو "يِس" حتّى بعد السابع من أكتوبر، أَمْ من المحتمَل أنّنا نشاهدها اليوم كمن يشاهد ضوء نجمة يصل إلينا بعد أفولها؟

الإجابة عن هذا السؤال ستتّضح مع مرور الوقت، وحتّى فيلم "الحاكم"، الذي سمحت الرقابة ببثّه في نهاية الأمر، يعتبره مجلس رقابة الأفلام السينمائيّة مفْرِطًا في نقديّته، وحظرَ عَرْضَه إلى حين انتهائه من مناقشة "صدق محتواه". في هذه المرحلة، يمكن القول على نحوٍ قاطع إنّ هذه الأفلام تشكّل مجموعة من الأجوبة اللاذعة والمسوَّغة والنقديّة عن السؤال: كيف وصلنا إلى أكثر من عام من الحرب التي لا تنتهي، بما في ذلك الدمار غير المسبوق الذي تُلحِقه إسرائيل بغيرها، وبالتالي بمواطنيها؟

سنتحدّث بعد العَرْض مع صُنّاع الأفلام، ومع خبراء وخبيرات من المؤسَّسة الأكاديميّة الإسرائيليّة حول مسار صناعة الأفلام، وسنسعى إلى فحص ما إذا كانت هذه الأفلام تشكّل أطلالًا لعصرٍ مُنْتَهٍ، أم ربّما تشكّل مؤشّرًا لأمرٍ ما يبعث الأمل. على هذا النحو أو ذاك، تشكّل الأعمال الوثائقيّة التي من هذا النوع الحدَّ الأدنى الضروريَّ المطلوبَ كي نتعرّف على الماضي الإسرائيليّ على حقيقته، ونشفي جراحه.

---

تُعْقَد سلسلة العروض والنقاشات "كيف وصلنا إلى هنا -نظرة توثيقيّة على النزاع" في معهد ﭬـان لير في الشهرَيْن كانون الثاني-شباط 2025، بإدارة وتوجيه د. إيلي أوشروﭪ.

الانضمام الى القائمة البريدية