البيت الفلسفي والشبح النسائيّ
د. ميري زوزمارين | 22.12.2021 | تصوير: عيدو بيرلاد
"خُذْلَك مَرا وابنيلْها بيت"، هكذا غنا أريك آينشتاين قبل سنوات عديدة معبرا بذلك عن صورة متجذرة في الثقافة الغربية حول "البيتوتيّة"، وعلاقتها بالهوية النسائية. في المتخيل الغربي لا يشكل البيت مجرّد فضاء ماديّ يحق للفرد أن يضع فيه أغراضه ويرتاح، فالبيت هو تجسيد مادي ملموس للإنسان نفسه ولاستقلاليته في حياته. المرأة تشكل تجسيدًا لهذه النزعة البيتية – في جسدها، وفي أعمالها، وعلى الرغم من ذلك لا ينظَر إليها كجزء من الحيز البشريّ الذي يخلق البيت، وعليه فهي تتحوّل إلى شبح في البيت – حضور تسعى المخيّلة الفلسفية إلى إخفائه، لكنها لا تفلح في ذلك.
وسيقول الفلاسفة الليبراليون الأوائل أنّ البيت هو الحيز الخاص؛ حيّز يجسّد الحرية الطبيعية للإنسان. حيز خاص يستطيع تصميمه كما يحلو له، وفيه يستطيع أن يعبّر عن عاداته الشخصية المتضمّنة، بعيدا عن عيون المجتمع الفاحصة. بيت الإنسان قد يكون منعتقًا من العمل، ومن القيود والمعايير الاجتماعيّة. البيت هو مكان للراحة، وبفضله يستطيع الإنسان الخروج مرة أخرى إلى الحيز العام كي يعمل في الحقل السياسيّ والاجتماعي والتجاريّ، ومقابلة الناس وتغيير العالم. وعلى الرغم من أهميّة البيت، تتعامل معه المخيلة الفلسفية والثقافية الغربية – فيما تتعامل – كحيز محدود ومقيّد. يفترض بهذا الحيز أن يوفر الاحتياجات البدنية والوجدانية للفرد، كل ما تعرّفه المخيّلة الفلسفية بأنه دونيّ ومصدر إزعاج للروح البشرية في ذروة تجليها.
حيكَ هذا الخيال المقترن بالبيت بواسطة كمٍ هائل من الأساطير والقصص والأفلام، وهو يربط عمليا الفرد – سيد البيت – بالرجل، بينما المرأة التي يبني لها الرجل بيتا هي الصفة "البيتوتيّة" بعينها، وهي قائمة من أجل الرجل. وهي التي ستحول الحيز إلى مكان مريح ولطيف؛ وسيمكّنه عملُها من أخذ قسط من الراحة، وهي التي ستهتم بتربية الأولاد، وبالطعام والترتيب والنظافة – كل ما هو مطلوب كي يكون للإنسان (الرجل) بيت. واقع حياة النساء في البيت لم يكن مرئيا بالنسبة للمخيلة الفلسفية الغربية على امتداد سنين طويلة. العمل البدني والوجدانيّ، وعمل الجسد والروح، والمعلومات التي تم جمعها، والمهارات، والتفاني من أجل أبناء العائلة، والالتزام الأخلاقي تجاه سلامتهم. كل هذه الأمور بقيت غير مرئية. حتى في أيامنا هذه التي خفت فيها القيود المفروضة على النساء لالتزام بيوتهن، ولا يتوقّع منهن أن يفنين أنفسهن من أجل الأعمال المنزلية، ما زلن يقترنّ بصفة "البيتوتية". يتوقع منهن أن يكنّ قلب البيت، وأن يخلقن البيتَ لصالح العائلة. وتطلَق عليهنّ أحكام قاسية إذا تضعضع التزامهن تجاه البيت بسبب عملهن أو مسيرتهن المهنية. على الرغم من ذلك، ما زلنا اليوم نفتقد للاعتراف بهذا العمل البشري المركبّ واليومي الذي يحول الفراغ بين الجدران إلى بيت.
رائدة أدون، مقطع من فيدو آرت بعنوان "غربة"، 2018. تصوير: إميل سلمان، "هآرتس"
في الأشهر الأخيرة عقدت في معهد فان لير سلسلة من المحاضرات بعنوان البيت الفلسفي: البيت كاستعارة فكرية وقد اعتقدنا أن هذه السلسلة تعرض مخيلة فلسفيّة وثقافية منقوصة، تلك التي لا تنمو من التجربة، ومن التاريخ، ومن واقع النساء في البيت. هذه المخيلّة الفلسفية غير كافية من أجل التفكير بالعمل، الذي بدونه ليس ثمة بيت؛ البيت كحيّز للعلاقات التي تحوّله في بعض الأحيان إلى مكان يحمي الفرد من الأذية، وتحوله في بعض الأحيان إلى مكان مؤذ ومعزول.
كجزء من نشاط مختبر الذاتية السياسية النسوية في معهد فان لير، قمنا بإنتاج ندوة البيت والشبح النسائي، ونسعى من خلالها إلى عرض مخيّلة فلسفيّة وثقافية مغايرة؛ تلك التي تنبع من تجربة النساء الحياتية، وقد وضعنا نصب أعيننا التفكير بالبيت من خلال أعمال أدبيّة وفلسفية تعترف بالبيت كحيّز حميميّ واجتماعي، حيز يعيش فيه رجال ونساء، ذكور وإناث، حيز ملموس ودينامي يحمل في طياته خصائص متفرّدة. وبهذه المناسبة سنفكر أيضا بقدرة الاستعارات على إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي أو تغييره .
أشباح تطارد البيت وقاطنيه. تصادر الحيّز المألوف والمريح، وتحوّله إلى حيز مهدّد. هذه الأشباح هي في الغالب شخصيات من الماضي تطارد الحاضر وتمكث فيه بطريقة غير طبيعيّة. ترفض هذه الأشباح أن تموت، وتجسّد كلّ ما لا يفلح الاناس العاديون في محوه أو إبقائه من خلفهم. الأشباح حبيسة الهوامش: تُعذّب، وتذكّر، لكنها تحفظ أيضا إمكانية البقاء قريبين من كل ما لا ننجح في التخلص منه. يقول داريدا، ان الأشباح ليست ماض يطارد الحاضر فحسب، فهي تمثل أيضا إمكانية صنع مستقبل آخر، بكونها تقضّ مضجع الحاضر كأمر بسيط وبديهي، وعليه فهي تفتح كوّة نحو التغيير.