الدولة القومية ومتعددة القوميات كقاعدة للنضال الطبقي
د. افي رام تسوريف | 18.01.2023 | تصوير: Pexels
كشفت الانتخابات الأخيرة النقاب عن تحوّلات اجتماعيّة طويلة الأمد دار رحاها في صفوف الجمهور الإسرائيلي، وبعضها مثير للقلق بكلّ ما يرتبط بالديمقراطيّة في إسرائيل. كيف تمكّن العودة إلى تاريخ الامبراطوريات متعدّدة القوميات من فهم الواقع الإسرائيليّ؟ وهل تمكنّ الدولة القوميّة (وما هي إلا محصلة الترتيبات السياسية الجديدة التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى)، من فهم كيف يمكن تحقيق التحول الديمقراطيّ؟
في ثلاث ندوات في إطار سلسلة إسا لوين؟ مستقبل المجتمع والسياسة في إسرائيل يناقش مفكّرون ومفكرات رياديين في مجالاتهم هذه الأسئلة وغيرها. تتناول الندوة الأولى العبَر المستخلصة من الانتخابات: نوسّع الخيال السياسي، وتتناول الندوة الثانية الشراكة اليهوديّة العربيّة، على ضوء أحداث أيار 21 وتشرين الثاني 22، أما موضوع الندوة الثالثة فهو الدين والسياسة: بين الهامش والمركز.
الإطار الإمبرياليّ كفرصة سانحة
في العام 1907، أي قبل تفكك إمبراطورية هابيسبورغ بعشر سنوات، وتحديدا بعد الحرب العالمية الأولى، قام أوتو باور بنشر مؤلفه الذي جاء بعنوان مسألة القوميّات والاشتراكية الديمقراطية (Die Nationalitätenfrage und die österreichische Sozialdemokratie)، وخصص جزءا كبيرا منه لسبر أغوار العلاقات الطبقيّة داخل "الدولة متعددة القوميات".
الدستور المركزيّ الذرّي الذي يحوّل النضال القومي إلى قوة حتمية، لا يحتمله البروليتاريون. المطلب الأول لدول دستورية بلوريتارية في الدولة متعدّدة القوميات هو دستور لا يجبر القوميات على المشاركة في النضال من أجل انتزاع القوة في إطار الدولة. كل أمة تحتاج القوّة، أي إمكانية الإمساك بطريقها، لتحقيق احتياجاتها [...]. من الضروري أن يجري تكريس قدرة القوميات على تحقيق احتياجاتها الثقافية على المستوى القانوني كي لا يجد السكان أنفسهم مجبرين على الانقسام لأحزاب قومية، وكي لا يحولُ النزاع بين المجموعات القوميّة دون تحقّق النضال الطبقي.
تشير أقوال باور إلى محدوديات الإطار الإمبرياليّ متعدد القوميات، وإلى محدودية الآفاق السياسية التي يفتحها هذا الإطار. هاجم باور بشدة الموديل الليبرالي النمساوي التي تجسد تجسدا ساطعا في الدستور النمساوي من العام 1867، معتقدًا أنه يشكل ركيزة علاقات القوّة المادية والطبقية بين المجموعات القومية وفي داخل الدولة. إلى جوار ذلك، اعتبر باور الإطار الإمبريالي متعدد القوميات- الذي تنوجد فيه قوميات مختلفة إلى جانب بعضها البعض- قاعدة سياسية لتحقيق النضال الطبقيّ. ووفق باور، لا يمكن تحويل النضال الطبقي إلى نضال كوني عام من خلال إلغاء المجموعة القومية، بل من خلال الإجراء العكسي، أي عندما تقوم الدولة بتوفير الشروط الماديّة لمجمل المجموعات القومية داخلها، على هذا النحو تستطيع هذه تحقيق وجودها الجماعي دون الحاجة للصراع على الهيمنة والسيادة داخل الدولة.
نظام سياسي جديد: الدولة القوميّة
كتب باور أقواله هذه قبل وقت طويل من ظهور النظام السياسي الجديد بعد الحرب العالمية الأولى، وانعكس هذا النظام من خلال صعود دول قومية في مناطق الدولة الهبسبرغية، وفي بناء الانتدابات، وتوسيع السلطة الاستعمارية لبريطانيا وفرنسا نحو مناطق الإمبراطورية العثمانية. أسدلت الحرب الستار على الأطر الإمبريالية متعددة القوميات وعلى آفاق التفكير السياسيّ التي وفرتها هذه الأطر، وبدأت مجموعات إثنية بالتفكير بأنها تمكث في داخل "غرفة انتظار"، قبيل اللحظة التي تتمثل في تحقيق البنية السياسية المرغوبة للدولة القومية. وجرى التعامل مع النظام السياسيّ الجديد بأنه الضمانة لحماية حقّ تقرير المصير لمجموعات قومية معينة، وعليه اعتبره البعض تجسيدا لعمليّة التحول الديمقراطيّ.
لكن نموّ الدول القومية وتحويلها حقّ تقرير المصير إلى المبدأ الأساسيّ للفكر السياسيّ بعد الحرب العالمية الأولى حصل بموازاة مسارين إضافيين: الأول هو حرمان مجموعات قومية معينة كانت تخضع لحكم استعماري من هذا الحقّ في تقرير المصير، وهي مجوعات تأمّلت أن يؤدي تعزيز هذا الحق إلى تحررها من نير الحكم الأجنبيّ، أما المسار الثاني فتمثل في طرح مسألة الأقليات، حيث خلق الإطار السياسيّ للدولة القومية قاعدة جديدة ارتبط فيها ميزان القوة في الدولة بالعلاقات بين الأغلبيّة القومية والأقلية.
وكما ادعت حنّه أرناديت فإنّ تقسيم شرق أوروبا العشوائي إلى دول قومية أودع بيد شعوب معيّنة (تحولت بين ليلة وضحاها إلى "شعوب دولة") مفاتيح الحكم، بينما تحولت شعوب أخرى في تلك اللحظة إلى مكانة "أقلية". هذه المكانة نقلت هذه المجموعات مباشرة إلى مكانة دونية مقارنة بمجموعات الأغلبية، إذ على الرغم من تمتعها ظاهريا بالانتماء لإطار سياسيّ معين، فقد جرى التعامل معها بانها تشكل تهديدا لتماسك هذا الإطار، وذلك لأنّها شكلت تهديدا على المميّز الأبرز للنظام السياسي الجديد وهو أسبقية الأمة على الدولة.
الاستعمار، والدولة القومية، وتأسيس الفلسطينيين كـ"أقلية"
جسد تبلور الـ"ييشوف" الصهيوني في فلسطين- أرض إسرائيل الانتدابية بعد الحرب العالمية الأولى تكاتف المسارين اللذان ارتبطا بصعود الدول القومية- إستثناء الشعوب الخاضعة للحكم الاستعماريّ من حقّ تقرير المصير وتَشَكّل الأقليات. اعترف الحكم الانتدابيّ بها كحركة استيطانية وبحقّها في تقرير المصير، في المقابل سلب حق التمثيل القومي للفلسطينيين في إطار اللجنة التنفيذية العربية للمؤتمر العربي الفلسطيني، وذلك في إطار المسعى البريطاني لخلق الظروف المواتية لتحقيق الوعود التي منحت للحركة الصهيونية في إطار وعد بلفور.
منِحَت للناجين الفلسطينيين من النكبة حقوقٌ مدنية محدود ةمن خلال تحويلهم إلى أقلية، وهذه الحقوق تمخضت عن الشرعية الدولية التي حصلت عليها الدولة القوميّة اليهودية الجديدة. جسدت هذه المكانة الثنائية التي ميّزت النظام السياسي العالمي بعد الحرب العالمية الأولى- من ناحية انتمى المواطنون الفلسطينيون لدولة إسرائيل، لكن جرى التعامل معهم -من الناحية الثانية- كأعداء وكطابور خامس يشكل تهديدا على الدولة. شكلت هذه المكانة قاعدة لأشكال القمع المختلفة التي مورست ضدّ مواطني الدولة ورعايا دولة إسرائيل الفلسطينيين (الذين لم يحظوا بمكانة مدنية) على امتداد السنين. التهديد الجديد على الحقوق الديمقراطية المترتّب عن نتائج الانتخابات الأخيرة، يشكل تعبيرا عن صراعات قوة إضافية داخل مجتمع المستوطنين اليهوديّ (في إطار علاقات القوة الإثنية والطبقية التي تميزها)، وتمتد جذوره إلى اللحظة التأسيسية لدولة إسرائيل كدولة قومية ودولة جميع مستوطنيها، وليس دولة جميع مواطنيها.
هل يمكن لأقوال باور أن تكون مهمة في خضم النقاش حول دولة إسرائيل المعاصرة، التي تغوص عميقا في داخل النظام السياسي للدولة القومية التي تأسست على ضوء الحرب العاملية الثانية (وهو النظام الذي رفض رفضا قاطعا الأطر الإمبيالية متعددة القوميات)؟ كيف يمكن للذاكرة الامبريالية أن تساهم في تحليل نقدي للنظام القائم؟ الشرط الحتمي للتحول الديمقراطي بحسب باور هو الفصل بين القومية والدولة، وليس على شاكلة تحويل الدول إلى جسم حيادي، بل من خلال ترسيخ دعمها لمجمل المجموعات الوقمية داخلها. هذا المسار، أسوة بعملية التفكيك الاستعماري،(أي إيقاف المسار الاستيطاني، وتعويض ضحاياه وعودة اللاجئين)، هو القاعدة الضرورية لكل مسعة للتحول الديمقراطي في حيز إسرائيل فلسطين، وقاعدة لتحول شامل في علاقات القوة الطبقية داخله.