وجْهان لِعولَمَة ذكرى الكارثة
البروفيسور عاموس غولدبيرغ | 28.01.2021 | تصوير: Unsplash
في السابع والعشرين من العام 1945 دخلت القوات السوفيتية إلى معسكر الإبادة آوشفيتس-بيركناو وحرّرته، وبحسب التقديرات المختلفة فقد قتل في المعسكر خلال فترة عمله نحو 1.1 يهوديّ ونحو مئة وخمسين ألف غجريّ وبولونيّ وأسير سوفييتيّ، وأسرى أخرين من جميع أنحاء أوروبا. تحول اسم أوشفيتس إلى رمز للكارثة ولفظائع النازية، وللرّمز الأكثر شيوعا للشرور البشرية.
معكسر آوشفيتس- بيركناو كان الأكثر دولية من بين معسكرات الإبادة، وقتل فيه العدد الأكبر من الأسرى، وهو المعسكر الذي طالت فترة عمله أكثر من أي معسكر آخر، وجرى استخدامه كمنظومة عملاقة لمعسكرات التركيز والعمل، وعمل فيه على امتداد الوقت مئات آلاف الأسرى، أو أرسلوا منه إلى معسكرات أخرى. وقد كان المعسكر الوحيد الذي وشِمَ فيه رقم الأسير (يهوديا كان أم غير يهوديّ) على ذراعه.
فقط في نهاية تسعينيات القرن العشرين تحوّل السابع والعشرين من كانون الثاني (وهو يوم تحرير آوشفيتس) إلى يوم الذكرى للكارثة. كانت ألمانيا الدولة الأولى التي حددت هذا التاريخ، بعد مضي ستة أعوام على سقوط جدرا برلين وتوحيد ألمانيا. في العام 2000 جرى بمبادرة رئيس الحكومة السويدي تأسيس منظّمة دولية ستدعى لاحقا IHRA (International Holocaust Remembrance Alliance)، وهي التي حدّدت السابع والعشرين من كانون الثاني يوم ذاكرة للكارثة، وفي العام 2005 اعترف به الاتحاد الأوروبيّ. فقط في تشرين الثاني من نفس العام تحوّل يوم الذكرى إلى يوم عالميّ، عندما اتخذت الأمم المتحدة قرارا بالإجماع بتحديد السابع والعشرين من كانون الثاني يوم الذكرى الدوليّة للكارثة.
معسكر الإبادة آوشفيتس-بيركناو
هذا القرار، وإقامة منظمة IHRA يجسّدان ما يطلق عليه العديد من الباحثين "عولمة ذكرى الكارثة". بعامّة، عندما نفكر بالذاكرة الجماعية نفكر بذاكرة تتشارك فيها مجموعات متماسكة، كالمجموعات العرقية، أو القومية أو الدينية- بحيث تشكل الذكرى جزءا مركزيا من هُويّتها. لكن الكارثة تحولت من خلال مسار طويل ومشوق -جرى تعجيله في سنوات التسعين-إلى ذكرى عالمية أو أوربية وغربية على الأقل. في الكثير المدن الأوروبية ومدن شمال أمريكا (وحتى وفي أمريكا اللاتينية وجزء من دول أسيا وفي جنوب أفريقيا) توجد متاحف ومؤسسات خصصت لتناول الكارثة وتخليدها. على سبيل المثال متحف الكارثة في واشنطن الذي يعتبر مؤسسة التخليد والأبحاث الأكبر في العالم (إلى جانب ياد فَشيم)، ويعكس هو الآخر هذا المسار. هذا المتحف أمريكي فدراليّ، ويقع في قلب جادة الرموز القومية الأمريكية (the mall)، وقد خصّص لحدث لا يمتّ بصلةٍ للولايات المتحدة الأمريكيّة. هذه الظاهرة استثنائية ولا مثيل لها في أرجاء العالم.
يكثر الحديث في بلادنا عن الخطر الكامن في إنكار الكارثة، ويبدوا أن هذه الظاهرة هامشية للغاية، وأنّ الظاهرة الأكثر إثارة واستثنائية هي ذكرى الكارثة بالذات التي اخترقت حدود الشعوب المرتبطة بها على نحو مباشر (ألمانيا واليهود). بخلاف الذاكرة القومية الأخرى تحولت ذكرى الكارثة إلى ذكرى يعتبرها جزء كبير من العالم ذاكرة مقدسة تعتَبَر المحافظة عليها مَهمّة أخلاقية تحدد من هم البشر المتحضّرين. بهذه المفاهيم تعتبر ذكرى الكارثة أمرا ثقافيا استثنائيا. وقد جرى تخصيص مؤتمر دولي عقد في فان لير في العام 2008 (ومجلّد صدر على ضوئه في العام 2015) لهذه الظاهرة الاستثنائيّة.
من الأهمية بمكان الإشارة هنا أنّ هذه العولمة قد حملت معها أبعادا سياسية، فعلى سبيل المثال شكّل قرار الأمم المتحدة الذي ذكِر أعلاه حول يوم الكارثة الدولية مبادرة لدبلوماسي إسرائيلي اسمه رون أدام والذي سعى -بحسب أقواله-إلى طرح رواية بديلة ومنافسة للرواية الفلسطينية التي هيمنت برأيه على أروقة الأمم المتحدة وفي صفوف المجتمع الدولي. حالة أخرى هي عقدُ حفل دوليّ بمشاركة غفيرة لإحياء هذا اليوم في ياد فَشيم في كانون الثاني من العام 2020، وشكل منصّة لطرح رواية روسية مزوّرة من الناحية التاريخية. مثال آخر هو تعريف اللاساميّة الذي تبنته منظمة IHRA في العام 2016، وتحول منذ ذلك الحين إلى رمز شبه ملزِم في الكثير من دول العالم، واعتبر هذا التعريف أن مناهضة الصهيونية والانتقادات اللاذعة لإسرائيل تشكّل نوعا من أنواع اللاساميّة، وأصبح (أي التعريف) يستخدَم لإسكات الأصوات النقدية ضد الصهيونية وضد تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين.
من هنا يشكّل يوم الكارثة الدولة قرار العديد من أمم العالم بتحويل الكارثة إلى رمز للشر وللنضال ضده، وحقيقة أن هذه الذاكرة هي حيّز سياسي بجوهره، ويستخدم في بعض الأحيان بطريقة ساخرة وأداتيّة.
لمشاهدة أحداث "ما هي الذاكرة بعد مضي 70 عامًا" في قناه معهد فان لير على اليوتيوب.