في العقود الثلاثة الأخيرة شكّل مصطلح "المجتمع المدني" شعارا رفعته المقاومة الليبرالية للأنظمة التسلطية في شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية واسماً لأنموذج مجتمع بديل يبتغي مواجهة أمراض المجتمع الليبرالي ذاته، وكذلك مفهوما متعدّد الدلالات في نظريات باحثي ودارسي المجتمع والدولة. في الآونة الأخيرة علت أصداء الاستخدامات المختلفة للمصطلح في الخطاب العام في إسرائيل، وذلك من خلال الحديث عن "أجندةٍ مدنية"، و "ثورة مدنية" وعن إسرائيل كـ"دولة جميع مواطنيها".

يرمي هذا الكتاب إلى استيضاح ماهيّة المجتمع المدني، ويطرح السؤال حول احتمال تأسُّس مجتمع كهذا في إسرائيل على الرغم من النزاع المتواصل بين دولة إسرائيل والفلسطينيين، وفي ظل الاحتلال كذلك. يُخصَّص الجزء الأول من الكتاب لاستشفاف عددٍ من مدلولات هذا المفهوم، وعدد من استخداماته في تاريخ الفكر السياسي في العصور الحديثة، بدءا من جون لوك ومونتسكييه ووصولا إلى أنطونيو غرامشي وهابِرْماس وحانه أرناديت. يشمل الجزء الثاني من الكتاب مقالات تراجِع عن كثب- ومن وجهات نظر نقديّة متعدّدة- ميّزات المجتمع المدني وعمليات "تحول مدني" في قطاعات ومجالات مختلفة في المجتمع الإسرائيلي. يناقش الكتاب في هذا الجزء عمليّات التحول الليبرالي والديمقراطي للسلطة وأجهزتها المختلفة، وتَراجُع مجتمع التّخوم الإسرائيلي في ظل التطورات في عملية السلام وخصخصة الخدمات الصحيّة، والمكانة المدنيّة للنساء في إسرائيل، والثّورة الدستورية، ودور المحكمة العليا في مأسسة المجتمع المدنيّ، وبوادر مجتمع مدني فلسطيني في داخل حدود دولة إسرائيل.

هذا الكتاب هو بمثابة شهادة على لحظة حاسمة في تاريخ المجتمع الإسرائيلي وعلى تطور البحث السوسيولوجي والمتعلق بالعلوم السياسية حول إسرائيل. تزامنت بداية التخطيط لتأليفه مع مرحلة التّقدم الكبير في اتجاه التصالح بين إسرائيل والفلسطينيين، لكنه صدر في الأيام التي نشب فيها العنف مجددا، وتغلب فيها التجنّد القبلي على المنطق المدني، وبدأ الخطاب الحربي والقومجي يصوغ مجددا جدول الأعمال الإسرائيلي. تطوّر الأحداث في الأشهر القريبة سيحدّد ما إذا كان الكتاب يشكل تعبيرا عن فكرٍ استشرافي سابق لعهده أم شهادة على لحظة عابرة في الثقافة الإسرائيلية، وخيار لم يتحقق، وفرصة تم إهدارها.

نفذت الطبعة