تُلزم أزمة الكورونا والردّ الاقتصاديّ الدراماتيكيّ الذي جاء على أثرها بإعادة التفكير بالنظريّة النقديّة والموقف السياسيّ للحركات والمنظّمات اليساريّة. خلقت سياسة التوسيع الكميّ (أو كما تُسمّي باللغة الشعبيّة: طباعة النقود)، والسيرورات الاجتماعيّة الاقتصاديّة الأخرى (إنقاذ مكثّف لرجال أعمال، وتحويل أموال من الدول للمواطنين بشكل مباشر، وحركة احتجاج واسعة النطاق)، انطباعًا متفائلًا، عند الكثيرين، بنهاية العصر النيو-ليبراليّ، الذي تميّز بتقليص تدخّل الدولة، واستبداله بنظام اقتصاديّ جديد، والذي في حال رافقته تنظيمات سياسيّة ذات فاعليّة، سيكون بإمكانه أن يدفع قدمًا بمطالب العدالة الاجتماعيّة. يروّج لهذه المقاربة عدد من المفكّرين المنتمين للفكر النقديّ اليساريّ، من بينهم يانيس ڤرفاكيس، ونانسي فريزر، وألبانا أزمنوڤا. يُصيب هؤلاء المفكّرين بادّعائهم أنّ العصر النيو-ليبراليّ قد ولّى؛ رغم أنّه لم ينتهِ كليًا وما زالت بعض أمراضه مستمرة. يحتاج نقد الرأسماليّة إلى إعادة النظر بفرضياته، ففي عصر تعود فيه الدولة للعب دور مركزيّة، وتتنظّم فيه العلاقة بين المواطنين والنظام بشكل جديد- عصر يسمّيه ڤرفاكيس بعصر “التكنو-إقطاعيّة”، وتسمّيه فريزر بعصر “الرأسماليّة آكلة لحوم البشر”. يبدو هذا التشخيص ملزمًا بنوع جديد من النقد، مركزه ليس الحقوق أو غياب-الحقوق، بل أشكال التسيطُّر الاجتماعيّ-الاقتصاديّ للعصر الجديد. يطرح هذا المقال الادعاء بأنّ هذا النوع من النقد مطلوب، لكنّه غائب عند هؤلاء المفكّرين، الذي بقوا مخلصين للقواعد المعياريّة الليبراليّة، ولهذا لا تستجيب الحلول التي يقدّمونها للتحدّي الذي يطرحونه بأنفسهم. يتلخّص نقدهم بمطالب للتسوية، ومحاولة لحلّ أزمة الرأسماليّة بواسطة الرأسماليّة ذاتها، لكنّها ظاهريًا أكثر إصلاحيّة وديمقراطيّة. إلّا أنّ القواعد المعياريّة للاعتراف والتوزيع، التي تتأسّس عليها هذه الحلول، تعيد إنتاج الصراعات التي تسعى لحلّها- بين الطبقات والقطاعات، بين القيم المجتمعيّة والسياسيّة، وبين كتلة الشرق وكتلة الغرب. يقترح المقال قراءة هذا النقد على الرأسماليّة على أنّه ضدّ ذاته: تحدّي القواعد المعياريّة-الليبراليّة التي بقيت كمخلّفات عنيدة عند هؤلاء المفكرّين بواسطة نقد الاقتصاد التكنو-إقطاعيّ أو “آكل لحوم البشر” الذي يطرحونه.
h1 class="h-md">الإقطاعيّة الجديدة واللاوعي الليبراليّ: عن مأزق نقد الرأسماليّة المعاصرة
غال هيرتس
العدد 56 | صيف 2022