افتتاحيّة: نقد الحرب
تتواصل حرب إسرائيل غزّة منذ شهور طويلة مغموسة بالدماء. راح ضحيتها أعداد يصعب استيعابها من القتلى والكثير من الجرحى، جسديًا ونفسيًا، ومن المفقودين والمخطوفين؛ مئات آلاف النازحين عن بيوتهم في جنوب وشمال إسرائيل، ومليون ونصف مهجّر من بيته في قطاع غزّة؛ جوع رهيب وجحيم أسر قاسٍ ومستمر. إنّها حرب لا تعرف الراحة، ونهايتها لا تلوح بالأفق. حرب حتّى بعد أن تضع أوزارها، لن تنتهي. قادة إسرائيل يرون حربًا لأجيال ويعدون بأن يكون أولاد اليوم جنود الغد في غزّة. ستحتاج إعادة إعمار غزة، إن حصلت، وقتًا طويلًا. لكنّ الحرب التي من دون نهاية تُشير إلى نهاية عالم الأمس، وإلى مدخل عالم جديد ينبسط أمام أعيننا المدهوشة دون أن تتضح معالم نُظُمه بعد. لا نُدرك بعد عمق الهاوية التي نسقط فيها، وإن كان بالإمكان أن ننجو منها أو إن كان علينا أن نتعلّم كيف نحيا فيها. الحرب تهزّ الكيان في إسرائيل/فلسطين كلّها.
تعيش غالبية الجمهور الإسرائيليّ في حالة إنكار عميقة: إنكار الدمار في غزة، وحالة الجوع فيها، وممارسات الجيش هناك. يبدو أنّ الزمن توقّف في يوم السابع من أكتوبر، وكلّ ما جاء بعده ينبثق عن ذلك اليوم ويُعيد إليه. القتال غير المقيّد في غزّة هو محاولة للتغلّب على ذلك اليوم – الانتصار عليه، وليس على حماس – لكنّه يتواصل، ويفشل: تتراكم الأيام، وتصل التقارير عن الإجراءات العسكريّة، وتُضاف الأسماء إلى لوائح القتلى، لكنّ عَجَل الزمن مثقوب؛ لا شيء يتغيّر، وذلك اليوم السيء والنزق يهيمن على كلّ شيء. إنكار ما يحدث في الأشهر الأخيرة في غزّة هو إنكار مكانة إسرائيل الآخذة للتشكّل كدولة منبوذة، تنفر منها جماهير كثيرة حول العالم، وتتحوّل إلى رمز الظلم السياسيّ في عصرنا. ترتكز التفسيرات المحليّة لهذا إلى أسس أوليّة أبديّة (اللاساميّة القديمة وعلاقتها باليهود) وتُصاب بالعمى أمام الفعل التاريخيّ (سياسة حكومة إسرائيل) وتتعاطى مع الواقع كقدر محتوم: شعب يسكن وحده، في مضيق دون مخرج. لذلك، حتّى من خلف أسوار الإنكار، ورصّ الصفوف وبهرجة وحدة الشعب، والانتصار المأمول الذي تأخّر، تسود أجواء من اليأس، في مكان مستقبله غير واضح، ومعه غضب على إهمال الدولة لم يجدّ متنفّسًا للتعبير عنه بعد؛ وفي أوساط صغيرة من الجمهور هناك خجل من الأفعال التي اُرتكبت باسمنا، من أموال ضرائبنا، وكأنّها من أجلنا ومن أجل أمننا.
هذا عدد خاص من مجلّة نظريّة ونقد، عدد نقد الحرب. قبل مئة عام تناول فولتير بنيامين أنماط وجود القوّة السلطويّة، وأشكال تبرير العنف الذي تمارسه، في مقاله “نقد العنف”؛ ادّعى فيه أنّ العنف ليس وسيلة لتحقيق هدف فقط، بل هو ما يربط بين تأسيس المبنى السياسيّ والحفاظ عليه، وأنّ له نمط خاصّ، مميت لكن غير نازف، وقادر على تمزيق المبنى السياسيّ نفسه. بعد مئة عام من نشر ذلك المقال، نسعى إلى تناول ونقد أشكال فعل الحرب التي من دون نهاية، خلال وقوعها، من داخل انعدام اليقين الذي تولّده، ومن دون معرفة نهايتها. يتناول كتّاب وكاتبات هذا العدد الحرب ككارثة وكَلاحدث، يسألون كيف نصحو من الكابوس، ويتساءلون عن النفس التي في الدفاع عن النفس، وينظرون في دور صُوَر فظائع الحرب، ويحلّلون الترسّبات المختلفة لفنتازيا الإزالة، ويرسمون ملامح طيف دولة تخوض نزاعًا نيو-إمبرياليّ. كُتِب هذا العدد من منظور موقف معادٍ للقومجيّة ولا يتقبّل الحرب كقدر محتوم، كما يرفض الدمار في غزّة. أمام الإعلام المُمَأسّس في إسرائيل، الذي تغطّي تغطيته الواقع فعليًا، وأمام تدفق المعلومات في وسائل التواصل الاجتماعيّ التي تتراكم دون أن تشكّل معرفة، نرى بهذا العدد محاولة لتحفيز فكر طارئ، لكن بذات الوقت عميق، عن الحاضر الذي نعيشه.
تجري هذه المحاولة على أرض غير مستقرة، وفي ظلّ تقليص إمكانية إجراء نقاش نظريّ-نقديّ حول حرب إسرائيل-غزّة إلى حدّ بعيد. منذ بداية الحرب، وجِّهت انتقادات شديدة اللهجة ضد النظريّة النقديّة؛ فقد اُدعي أنّ الشقّ الذي نشأ في أكتوبر-تشرين الأوّل 2023 يتطلّب فحصًا ذاتيًا فكريًا، وأنّ العديد من المكوّنات المركزيّة للنظريّة النقديّة – الخطاب الما بعد استعماريّ، بَردايم الاستعمار الاستيطانيّ، البحث غير القوميّ والمطلب بوجود إسرائيليّ-فلسطينيّ مشترك – تصطدم بواقع سياسيّ جديد، يتجاوز كلّ خيال ويشذّ عن كلّ مبنى ويتطلّب إعادة نظر شاملة للمواقف. بدا أنّ هذه النظريّات، ومتحدّثيها الرئيسيّين وتلاميذهم الكثيرين في الجامعات حول العالم قد خيّبوا الأمل. “اليسار العالميّ”، “الجمهور التقدميّ” و”الأكاديميّة الأمريكيّة” وُضِعت كلّها ككيانات فعليّة ذات قوّة سياسيّة كبيرة؛ والتبرّؤ من النظريّة النقديّة – كأنّ هناك نظريّة واحدة ذات موقف واحد متماسك وكلّها معادية لإسرائيل بأثر رجعيّ – تحوّل إلى مهرب لكلّ من سرد قصّة الصّحوة (התפכחות) وسعى للاحتشاد في ظلّ إجماع قوميّ تصلّبت حدوده. من الجهة الأخرى، يدفع التمسّك بالمنظومات النقديّة المعروفة، والتعاطي معها كأنّها لم تتشكّل في واقع عينيّ يمكنه أن يؤثّر عليها، أو كأنّه تنبثق عنها دومًا طرائق عمل معروفة سلفًا، بالنظريّة النقديّة ذاتها إلى مناطق الدوغماتيّة. في المساحة بين هجر النقد ووعظ النظريّة يأتي هذا العدد من مجلة نظريّة ونقد، ويقترح اتجاهات أوليّة لبحث نقديّ نظريّ في ظلّ هذه الحرب الملعونة. في أساسه، ومن كلّ مقالاته، يُطرح سؤال عمّا هو، وما يمكن أن يكون، النقد في إسرائيل، المكتوب بالعبريّة، خلال الحرب.
نُشر هذا العدد في موقع نظريّة ونقد خلال شهرَي حزيران وتمّوز 2024؛ كلّ أسبوع نُشر مقال جديد. ترتيب المقالات في العدد المطبوع هو كترتيب نشرها في الموقع. تحمل المقالات طابع الفترة التي فُكِّر فيها وكُتبت وحُرِّرت ونُشرت خلالها بنهاية الأمر، وهي شهادة حولها كذلك. المقالات هي نتاج تلك اللحظة- فيها ما يُعلّمنا شيئًا عنها، كما يسعى كلّ مقال بأسلوبه لأنّ نتعلّم منه شيءٌ ما.
***
في المقال الذي يفتتح العدد أدّعي أنّ أكتوبر- تشرين الأوّل 2023 حوّل البعيد إلى قريب: إسرائيل وغزّة تشابكتا ببعضهما البعض. ما قد أُبعد، ما قد أُنكر، ما قد أُقصيَ إلى ما وراء جبال الظلام وخارج الواقع والخيال، عَبَر الحدود فجأة، واخترق الجدار، وظهر في الداخل، في داخل البلاد فعلًا، وتحوّل إلى قريب بشكل حتميّ. يسأل المقال عن مدى ومعنى هذا القُرب: عن العلاقة بينه وبين الحرب، الحرب القريبة، المواجهات وجهًا لوجه، القاسية المميتة، الدائرة في هذه الحرب؛ عن الإعلام الرقميّ كوسيط مقرِّب، يستثير عروض قرائن لانهائيّة؛ عن غياب الضحيّة التي تنقذنا من الدُوار المُحاكي؛ وفي النهاية عن حرب إسرائيل-غزّة كمعركة بين قريبين، قربى دمّ، حرب هي أيضًا حرب أهليّة، حرب داخل العائلة. يُختتم المقال بالسؤال عن كيف يبدو النقد القريب – القريب لواقع حرب من دون نهاية، وداخليّ فيها– الذي لا ينغمس في الدمار الذي تُحدثه الحرب، ولا في التحدّث باسمها ولا تبريرها، لكنّه لا ينظر إليه من مسافة بعيدة آمنة.
إحدى أكثر الكلمات شيوعًا في العبريّة المعاصرة هي “حدث” (אירוע)، وذلك منذ أن أعلن بنيامين نتنياهو خلال فترة أزمة الإصلاح القضائيّ أنّه يزيل عن نفسه القيود القضائيّة و”يدخل للحدث”، فأضحت كل حالة، وكلّ واقعة حدثًا، بما في ذلك الحرب ذاتها. يقولون إنّ الحرب حَدَثٌ، حدث منظِّم لم نعرف مثيلًا له؛ وإنّها بمثابة نداء إيقاظ ولذا علينا أن نستيقظ من الأوهام السياسيّة التي سبقت الحرب؛ وإنّها تتطلب منّا أن نصحو؛ إذ حتّى لو أنّ الحرب لم تكن مرغوبًا بها، فهي الآن ضرورية؛ وإنّها بدأت بحدث صادم يتجاوز أيّ سياق؛ ويجب التخطيط لخطواتها بعناية. في مقاله، يتناول يوڤال كريمنتسر كلّ هذه المفاهيم – الحدث، الكارثة، الصحو – ويدّعي أنّه في الدعوة إلى الصحو من الأيديولوجيات السابقة والتمسّك بالواقعيّة المحسوبة يكمن خطر الاختيار العقلانيّ (ظاهريًا) الأسوأ على الإطلاق. كذلك، يتناول المقال شيوع “الواقعيّة الكارثيّة” على الخطاب السياسيّ في إسرائيل، وموقف الذات الذي تعبر عنه، والمأزق الذي تقود إليه، ويتساءل عمّا هو مطلوب منّا من أجل المطالبة بإنهاء الحرب.
في السابع من أكتوبر 2023، بُثّت مقاطع فيديو حيّة لقتل وإحراق واختطاف وإيذاء لمواطنين إسرائيليّين، صوّرها محاربو حماس وهم يرتدون كاميرات Go Pro. في مقالتها، تعود ڤيرد ميمون إلى الصدمة السياسيّة والبصريّة لذلك اليوم وتحاول تأويلها. تدّعي ميمون أنّ هذه الصور لم تكن مجرد مُلحقات بأفعال محاربي حماس، الذين وثّقوها ونشروها في كلّ الاتجاهات، بل كانت جزءًا لا يتجزّأ من الأفعال، من منطقها العسكريّ والدينيّ، من منظومة الانتقام والخلاص التي ترتكز عليها. لم تصوّر تلك الصور أعمال الاعتداء الوحشيّ فقط بل اعتدت أيضًا على قدرة المشاهدة ذاتها. كانت تلك صور وثّقت العنف وشاركت بشكّل فعّال في ممارسته وتوسيعه. في المقال، تفهم ميمون الصور بشكل يتجاوز المنطق الدلاليّ، وترى فيها شكلًا من أشكال تأسيس مجتمعات فعّالة تتشكّل عبر مشاهدة الصور ونشرها. كلّما بدت الصور أكثر “حقيقيّة” وخامًا وغير خاضعة للرقابة، كلّما أثارت البعد الوهميّ والشبحيّ والطيفيّ للعنف. تُشير ميمون إلى التغيير الحاصل على مكانة الصورة مع الانتقال إلى كاميرات الجسد: الكاميرا لم تعد توسيعًا للعين، واستخدامها يتحرّك بين ألعاب الحاسوب والأعمال الإرهابيّة، ومن غير الواضح لمن تنتمي الصور – من هو المدعو للانغماس في فعل صور داخليّة ضمنه.
سؤال شبيه، لكن من اتجاه آخر، تسأله ألينكا زوبانشيتش، الفيلسوفة والباحثة الثقافيّة، عضوة مدرسة ليوبليانا: مثلما أنّ الصورة لم تعد تواجه العالم بل هو الذي يحتويها كليًا من دون أن يُبقي لها خارجًا، كذلك هو الكابوس الذي لم يعد خارجيًّا لواقع الحياة في الفترة الحالية بل هو موجود في أساسها. في عالم من الأزمات المتسلسلة التي من دون حلّ ولا انحلال، هل بالإمكان الصحو من الكابوس السياسيّ الذي يُحيط بنا؟ في مقالتها، تصف زوبانشيتش صعود اليمين الشعبويّ، وأزمة المناخ، والحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والآن الحرب بين إسرائيل وغزة أيضًا، بأنّها سلسلة من الأزمات التي لا تُحلّ، بل تسيل الواحدة إلى الأخرى لتنسكب في وضع أزماتيّ ساكن ومتراصّ، بشكل مختلف وبعيد كلّ البعد عن الأزمة النشطة والمثمرة التي اُعتبرت سابقًا ركنًا في بنيان التطوّر التاريخيّ. تُظهر زوبانشيتش كيف أن مطلب حلّ الأزمة، وفعل شيء للقضاء عليها، يتنكّر للظروف النفسيّة-السياسيّة التي أدّت إليها وكامنة في جوهرها. حلّ الأزمة، الاستيقاظ من الحلم، الصحوة أو الإدراك هي أشكال من الوقوف في ذات المكان دونما حركة. التفكير بالكابوس بجديّة لا يعني الاستيقاظ منه بسرعة، أي إنكار وجوده الواقعيّ، بل يعني عيشه كعلامة على حقيقيّة الواقع ذاته. تفتتح هذه المقالة كتابها القادم Disavowal، الذي سيصدر عن مؤسّسة Polity، وهي تُنشر في أعقاب حوار أجريناه معها، كمجموعة باحثين إسرائيليّين وفلسطينيّين، في نهاية كانون الأوّل-ديسمبر 2023 وناقشنا معها خلاله كلّ هذه الأفكار.
تتساءل مقالة رائف زريق كيف وصلنا إلى وضع الكابوس الحاليّ، الذي فيه باسم دفاع إسرائيل عن نفسها، ولكي يكون هناك أمن للإسرائيليّين، يجب تدمير غزّة فوق رؤوس سكّانها. في حالة الطوارئ الدائمة التي ترافق إسرائيل منذ إقامتها، يُحفظ للدفاع عن النفس مكان مركزيّ في تعريف وظيفة الدولة. لكنّ زريق يدّعي أنّه بعد عام 1967 ومع بدء المقاومة الفلسطينيّة للاحتلال، استخدمت إسرائيل الدفاع عن النفس كذريعة لقمع هذه المقاومة بأشكالها المختلفة. هكذا، تمّ تضييق أفق المقاومة الفلسطينيّة إلى أبعد الحدود، وأضحى كلّ فعل، عنيف أو غير عنيف، يُفهم في إسرائيل على أنّه مسّ بمجرّد وجودها. تحوّل الدفاع عن النفس إلى صورة تُلغي كلّ آفاق المقاومة الفلسطينيّة. يسأل زريق في مقالته: من هي النفس التي لها الحق في الدفاع عن النفس؛ هل هي متماسكة وثابتة، بشكل يسبق الطريقة التي يُدافع بها عنها، أم أنّها نفس تتوسّع وتستحوذ وتتشكّل بطرق تختلف عن تلك التي تدافع بها عن نفسها، أي تهاجم الآخرين؟ يوضح زريق كيف تعمل إسرائيل في سياق التوسع الجغرافيّ الذي يهمَّش فيه وجود الاحتلال ذاته بحيث يتم تطبيعه وتحويله إلى واقع شفّاف وطبيعيّ وراسخ، في حين لا تظهر في الواجهة الأماميّة سوى المقاومة الفلسطينيّة التي تجبر إسرائيل على الردّ. ومع ذلك، يتساءل زريق عن شروط إمكان الحوار بين المحتلين والمحتلين – بما في ذلك الآن، أثناء الحرب وبعدها.
يتناول المقالان التاليان في العدد بشكل واضح بردايم الاستعمار الاستيطانيّ وسؤال نزع الاستعمار. أمام ال”دوميسايد” – هدم البيت الشخصيّ، الرمزيّ والقوميّ – الذي تحوّل إلى رمز من رموز الحرب، إن كان ذلك في محاولة محو بلدات النقب الغربيّ أو في الهدم الفعليّ لغالبية المباني والبنى التحتيّة في قطاع غزّة، يتساءل أريئيل هندل وموري رام كيف يمكن أن يبدو نزع الاستعمار الذي يمكّن الجماعتين القوميتين اللتين تتقاسمان البلاد من العيش معًا. يسعى المقال إلى اقتراح صياغة مفهوم مختلف للاستعمار الاستيطانيّ، لا يتقيّد بالاستعمار الكلاسيكيّ، كنوع من “السكن العنيف” (violent dwelling): استيطان يطرد أو يُبعد سكّان البلاد السابقين. يقترح هندل ورام أفقًا جديدًا للسكن، لا يطرد بل يمكّن من بناء بيت آمن للقوميتين اللتين تسكنان البلاد، بشكل يتحدّى التمييز الثنائيّ بين المستوطنين والأصلانيّين. مثل هذا النوع من السكن، كما يعلم الكاتبان جيدًا، لن ينبثق بشكل عفويّ أبدًا؛ ولكي يكون يجب أن يتأسّس على انتقال شامل من أشكال قمع الفلسطينيّين وظروف اللامساواة بينهم وبين الإسرائيليّين.
تتناول هاچر قوطف في مقالها بشكل صريح فنتازيا الإزالة السائدة في الخطاب الاستعماريّ الإسرائيليّ وفي الخطاب الما بعد استعماريّ الفلسطينيّ. خلال الحرب، ظهرت فنتازيا الإزالة على سطح الخطاب العموميّ في إسرائيل بشكل غير مسبوق. يبدو أنّ الأمر جاء كردّ على فنتازيا التصفية التي في الجانب الفلسطينيّ وعلى فعل التصفية في السابع من أكتوبر، وهو ما فُهم على أنه تحقيق مؤقت، ومفاجئ، لتلك الفنتازيا. تبحث قوطف الجذور الفكريّة لهذه الفنتازيا، الموجود ظاهريًا في كتابات فرانس فانون، وتُظهِر كيف يمكن قراءة فانون بشكل مختلف – ليس كحالة فنتازيا إزالة المستوطنين، بل كتوقف عند بُعد الفنتازيا الذي في هذه الإزالة. بمساعدة مفهوم التفاؤل القاسي للوران بيرلانت، تكتب قوطف عن نزع الاستعمار القاسي، عن الشغف إليه الذي يتضمّن فشله، وتفحص الأنساق الأخرى لنزع الاستعمار، التي فيها تضامن ووجود مشترك تمكّن من التغلّب على الواقع الكارثيّ الذي نعيشه.
يوسّع چال هيرتس ويونتان إلشيخ المنظور ويضعان حرب إسرائيل-غزّة خارج إطار التحليل القوميّ والاستعماريّ؛ إذ يتناولان الحرب كأزمة متعدّدة الساحات آخذة بالتوسّع ويريان أنّها في أساسها ليست صراعًا بين دول، بل تعبير عن عصر يمتاز بصعود منظّمات لادولانيّة – شركات دوليّة، ميليشيات، ومنظّمات وكيلة. يستعرض هيرتس وإلشيخ أساسهما النظريّ في الانتقال من “عصر الحيتان” (لڤيتان) إلى “عصر التماسيح” من خلال قراءة مجدّدة لتوماس هوبس وكارل شميت، يفهمان عبرها الصراع بين الحيتان والوحوش، بين الدولة ككيان وحدويّ عاقل؛ ينظّم المجتمع ويكفل أمن مكوّناته، وبين الوحوش—تعدّد فوضويّ، غرائزيّ وعنيف، معدوم القانون. الصراع بينهما ليس مسارًا في اتجاه واحد ولمرّة واحدة، صراع ينتصر فيها الحوت المستحق والمنظّم على الوحوش القديمة وينقلنا من الحالة الطبيعيّة إلى عالم الحضارة. إنّه توتر قائم في المجتمع وفي ثنايا النظام ذاته، ويُنتج في كلّ فترة أشكالًا مختلفة من التنظيم والإخلال الاجتماعيّ، ومن التفاف الوحوش والحيتان حول بعضها. في عصرنا، عصر التماسيح، الذي في أحد أقطابه وحوش وفي القطب الآخر حوت، قد يبدو أنّ النظام السياديّ الدولانيّ آخذ بالتفكّك، لكنّه لم يصل بعد إلى مرحلة “حرب الجميع ضد الجميع” بل يتدحرج إلى أشكال سلطويّة مختلفة، وطرق عديدة من ممارسة القوّة ونقلها، لهيئات موجودة إلى جانب الدولة القوميّة، بفشلها، قبلها أو بعدها.
تختتم العدد مقالة “لا يُغْتَفَر”، الفصل الأخير من كتاب الفيلسوف وعالم الموسيقى الفرنسي فلاديمير جنكيليفيتش، “الصفح” (1967). في هذه المقالة يصيغ جنكيليفيتش فكرة جريئة عن الصفح – صفح يتجاوز كلّ اقتصاد للذنب، والتبرير والغفران. الصفح الحقيقيّ، يدّعي جنكيليفيتش، هو الصفح لما لا يُغفر له، أي على الجريمة التي لا يمكن تبريرها أو فهمها؛ ذلك الصفح الذي يُمنح فجأة، ليست كاستجابة لطلب الصفح وخارج منطق العقاب والغفران، وهو يتأرجح بين قطبين لا وسط بينهما: الشرّ الراديكاليّ الذي يجب القضاء عليه، ومحبّة الإنسانيّة والأخوّة بين بني البشر. يرتكز هذا الكتاب، الذي كُتب في ظلّ أوشفيتس، على تمييز واضح بين الضحايا والجلّادين. إلّا أنّ ترجمة هذه المقالة التي تختم الكتاب ونشرها ضمن هذا العدد يحدثان في سياق سياسيّ-أخلاقيّ مختلف تمامًا، يبدو فيه سؤال ما هو الذي لا يُغتفر ومن يمكنه الصفح معلّقًا في الهواء. أضاف المترجّم چاي يعقوبي مقدّمة للترجمة يطوّر فيها السياق التاريخيّ والفكريّ لجنكيليفيتش، ويتوقّف عند المفارقة القائمة في الكتاب ذاته وفي القراءات الأخرى لجنكيليفيتش حول سؤال الصفح، كما يدفع بهذا السؤال إلى الواقع المعاصر في إسرائيل/فلسطين كاقتراح لنقاش أخلاقيّ، مهم حتّى لو كان غير محسوم، حول جرائم الحرب. كما كتب لؤي وتد خاتمة للمقالة، يتقاطع فيها الصفح عند جنكيليفيتش مع الصفح عند جان امري والشاعر المصريّ أمل دنقل. يسأل وتد عمّا بين الصفح والمصالحة، من يمكنه الصفح عن الجرائم الجماعيّة، وهل الصفح المستحيل فعل تجريد وتسامٍ مفوَّض لطرف واحد فقط.
***
لم يكن نشر عدد نقد الحرب – في موقع نظريّة ونقد بداية والآن مطبوعًا –ممكنًا من دون عنات شاليم، مركّزة هيئة تحرير المجلة التي أنهت مهامها. رافقت عنات العمل على عشرة أعداد من المجلة، وكانت مشاركة في كلّ التفاصيل الصغيرة منها والكبيرة، وكذلك في المؤتمرات، ولقاءات الزوم، والأيّام الدراسيّة والورشات البحثيّة التي نُظّمت في إطار نظريّة ونقد في السنوات الستّ الأخيرة. كانت شريكة في الدرب، وأشكرها على ذلك من صميم القلب.