من نفق السوء وما بعده: دعوة للالتئام وإلقاء نظرة مشتركة على الحاضر
د. طال نيتسان | 18.09.2024 | تصوير: ياهيل غازيت
الواقع اليومي للسنة الأخيرة هو "دوّيخة" (كاروسيلا) من العنف والرعب، والفقدان البدني والرمزي، والعجز والصرخة. هذه الدوّيخة لا تمتثل لقوانين الفيزياء، فلا تبطء من سرعتها عند احتكاكها بالهواء، لا بل أنها تتسارع أكثر فاكثر.
النظر إلى داخل النفق
في العاشر من أيلول 2024 عرض المتحدث بلسان جيش الدفاع الإسرائيلي على العالم النفقَ الذي احتُجز فيه وقُتل فيه أوري دانينو، وأليكس لوبانوف، وألموغ ساروسي، وهيرش غولدبيرغ- بولين، وكرميل جات وعيدن يروشالمي اللّذين جرى اختطافهم من إسرائيل إلى قطاع غزة في السابع من تشرين الأول من العام 2023. مكّن الشريط المصور القصير الجمهور في إسرائيل من أن يشاهد للمرة الأولى الظروف الصعبة التي كافح فيها الستّة من أجل البقاء على قيد الحياة: حفرة ضيّقة، ورطبة، وخانقة ذات سقف منخفض، عثر فيها على زجاجات بول، ودلو استخدم كبئر امتصاصية، وفوَط صحيّة للنساء، وبعض رصاصات كلاشينكوف فارغة، وبقع الدّم التي تشير إلى مكان قتلهن/م.
الكشف عن النفق أبقانا جميعا فاقدين للقدرة على إزاحة انظارنا عن الفظائع التي ارتكبت هناك، مع الإدراك أن هذا الواقع مستمر وسيستمر، ومع أسئلة حول ماذا بعد. يبدو أن توجيه النظر قد أوقف "الدوّيخة" (للحظة)، وثبّتنا جميعا في أعماق نفق السوء: خاضعات، بأنفاس محبوسة، وفاقدات للقدرة على النظر إلى أبعد من حزمة الضوء القصيرة للمصباح التي سلّط من أجلنا كي نفهم هذا الواقع. دون التقليل من معاناة المخطوفين والمخطوفات، يبدو أننا جميعا تقبع داخل نفق مظلم.
عمليًا، وعلى عكس الإحساس بالعتمة والاختناق، نحن ندوخ على بعد خطوة من فتحة النفق، وليس في داخلها. وكي لا نقع في أعماقه، عليها أن نصمم على النظر على سهول الواقع الماثل امامنا من زوايا نظر إضافية تختلف عن تلك التي أشارت إليها حزمة الضوء؛ زاويا نظر تساعدنا في العثور على نقطة تشبّث وتوازن من خارج نفق السوء.
توسيع النظرة
بادرنا إلى عقد مؤتمر "لمن هذه الحرب؟ نظرات نسوية على الحاضر"، كي نفحص عددا من الأسئلة: ما هي السبل الإضافيّة التي يمكن من خلالها تأمل الواقع، من خلال أيّ عدسات يمكن القيام بذلك؟ ما هي المعرفة التي توفّرها النظرات الإضافية، وما الذي يمكن استنتاجه من هذه المعرفة حول إمكانيات العمل؟ ومن يملك -أو تملك- قدرة التأثير على حاضرنا ومستقبلنا وتصميمهما؟
يعمل النشاط والبحث النسويّ في المعتاد على كشف النقاب عن آليّات اجتماعية خفيّة، لكن في نقطة الزمن الحالية يبدو أنّ محور النشاط والبحث النسويّ يكمن في حلّ لغز الواقع اليومي المكشوف، وليس كشف الواقع الذي يقع تحت الأرض.
منذ عام، أي منذ بدأت الحرب، تفحص منظّمات نسوية أبعادا جندرية للحرب في حدود دولة إسرائيل، من زوايا نظر مختلفة. كيف تؤثر أوضاع مأزومة على مستوى التزام الدولة لحماية شرائح سكانية مستضعفة، كالنساء، والأقليات، والناس الذين يقبعون في حالة الفقر. كيف تؤثر الحرب على الأمن الفرديّ للنساء في بيوتهن وفي مجتمعاتهن المحلية، لا سيّما في واقع قابل للانفجار أصبح فيه التسلّح المدنيّ شائعا أكثر فأكثر، وفي المقابل تصبح الخدمات الاجتماعية (كما الحال في مجال الصحة النفسية، على سبيل المثال) متاحة أقل بسبب تقليصات الميزانية وتحويل الموارد لصالح المجهود الحربي، على الرغم من أن الحاجة إلى هذه الخدمات تصبح ملحة اكثر على خلفية تأثيرات الحرب؟ كيف تؤثر الحرب على الحالة الاقتصادية للنساء (تغيّب الأزواج، وإغلاق أماكن العمل، والتقليصات في الخدمات الاجتماعيةّ) بعامة، وللنساء العربيّات بخاصة ( بسبب الضغوطات السياسية)؟ ما هي المشاكل الهيكلية- غياب التمثيل في محاور القوة وصنع القرار، وأنواع مختلفة من التشريعات، والسياسات والبيروقراطية- التي تصبح حادة أكثر في الحالات المأزومة؟
أسوة باستعراض الأسئلة التي تسعى إلى تسليط الضوء على الأسئلة العلنيّة، واليومية، والمُجَنْدَرَة للحرب، تسعى هذه الأبحاث إلى توسيع النظرة قدر المستطاع: الاستماع إلى أصوات النساء البدويّات، وفحص مدى اتصال غايات التطوير التي حددتها الأمم المتحدة بما يحصل في إسرائيل، وكذلك فهم وعرض أنماط نشاط جرى وضعها في الدول التي تتعامل مع حالات طارئة بسبب أزمات أمنيّة واقتصاديّة، وكوارث طبيعية وأوبئة، وكذلك أنماط نشاط جرت صياغتها في إسرائيل إبان فترة الكورونا.
إلى جانب منظمات نسوية، تفحص باحثات نسويات-هنّ الأخريات-نقاط عمى في الواقع الاجتماعي الحاليّ: ممارسات تصبغ الخطاب الأمني بخطاب عاطفي، فتحرمنا من نقاشات مهمة حول واقع حياتنا، والقدرة على نقده وصياغته؛ شراكات بين نساء مختلفات تحمل أهمية للعيش اليومي في أيام الحرب، وآليات اجتماعية ومجتمعية تمكّن من تحقيق هذه الشراكات؛ تأمّل التهديد الوجودي كنقطة بداية مشتركة للنضال المتبادل بغرض البقاء والإنقاذ. هذه التبصرات ترسّخ تمسّكنا الآني بالواقع، وتمكننا من التفكير بالمستقبل أيضا خارج وما بعد نفق السوء.
فهم الحاضر، والنهوض بمستقبل أفضل
نريد أن نستمع لزوايا نظر إضافية على واقع حياتنا، وعلى قدرة النهوض بمستقبل أفضل من نساء يتموضعن في محاور التأثير والقيادة. سنسعى إلى فهم هل، وكيف، وفي أيّ حيثيات تمكّن وجهات نظرهنّ من إنتاج نشاط يعود بالخير، وفي أي فضاءات ينجحن في تحريك النشاط، وما هي أفضليات ومعوّقات نشاطهنّ في فضاءات السياسات والقيادة؟ وكيف يبدو المستقبل من وجهة نظرهن.
سنجتمع يوم الأحد القادم في معهد فان لير في القدس كي نعلن بإصرار عن وجود سبل إضافية لفهم الواقع وتأمل واقع حياتنا من وجهة نظر نسوية، والاعتراف بأهمية التفكير معا كيف نستطيع النهوض بمستقبل أفضل لنا جميعا.
---
د. طال نيتسان هي المركّزة الأكاديمية لمنتدى صوفي ديفيس لدراسة الجندر، والنزاعات وتسويتها، ومحاضِرة في برنامج الماجستير لدراسات الجندر والتنّوع في الجامعة العبرية في القدس.
عقدَ مؤتمر "لمن هذه الحرب؟ نظرات نسوية على الحاضر" في معهد فان لير في القدس يوم الأحد 22 أيلول 2024 بين الساعات 14:15-19:30