الناصرة -كْفَارْ عِتْصْيُونْ: حالة اللجوء، والتوراة، وتفكيك الاستعمار في إسرائيل-فلسطين
د. آفي رام تسوريف | 10.09.2023 | تصوير: الراب بنيامين في شارع القدس بعد يوم واحد من قرار التقسيم، 30.11.1947. مجموعة صور العائلة، تَكَرَّمَ بها يادين عيلام.
"الـمَعْـﭘِـيلِيم الفلسطينيّون"
في ذكرى مرور ثلاثين يومًا على وفاة الأديب والمفكّر يهوشوّاع رديلر-فلدمان، المدعوّ الراب بنيامين، تحدّث المحامي الفلسطينيّ فريد وجدي الطبري حول طلبٍ توجَّهَ به أحد سكّان الناصرة إلى الراب بنيامين، كي يساعد معلّمًا عربيًّا وأباه بعد أن اعتقلتهما قوّات الأمن الإسرائيليّة بسبب استضافتهما لأحد "المتسلّلين"، بحسب تعريف الحكْم العسكريّ للفلسطينيّين الذين حاولوا العودة إلى أراضيهم بعد حرب عام 1948. على امتداد خمسينيّات القرن الماضي عارض، الراب بنيامين بشدّة التسمية "المتسلّلين"، ووصَف اللاجئين الفلسطينيّين الذين حاولوا العودة إلى أراضيهم (على الرغم من القيود القانونيّة، والعنف الذي مورِسَ ضدّهم) بأنّهم "مَعْپِيلِيم" (من المصدر "هَعْپلاه"، وهو الاسم الذي أُطلِق على هجرة اليهود غير الشرعيّة إلى البلاد إبّان الانتداب البريطانيّ، ويُطْلَق على هذه الهجرة الاسم "عَلِياهْ بِيْتْ" أيضًا -المترجم). كان الراب بنيامين يبلغ الحادية والسبعين عندما توجّه إليه المعلّم النصراويّ، فسافر على الفور من مدينة القدس التي كان يعيش فيها إلى الناصرة لمقابلة الحاكم العسكريّ، وقام هذا الأخير بتوجيهه إلى قائد أركان الجيش يـﭼـئال يادين الذي مكث في ذلك الوقت في بئر السبع. في اليوم التالي، ذهب الراب بنيامين للقاء يادين، ونجح في نهاية المطاف في إطلاق سراح الأب والابن.
في ذاك الوقت، عمل الراب بنيامين محرّرًا لمجلّة "نير" التي كانت بمثابة المنصّة المركزيّة للأصوات التي طالبت بإعادة اللاجئين الفلسطينيّين الذين طُرِدوا من البلاد، ومُنِعَت عودتهم بسبب الحرب، لكنّه اعتُبِر في الوقت ذاته شخصيّة مركزيّة لها وزنها في داخل الحركة الصهيونيّة، وهو الموظّف السابق في مكتب أرض إسرائيل، والشخصيّة المشهورة في دوائر الأدب العبريّ الحديث وصحافة الرأي الصهيونيّة-الدينيّة، والحاريديّة غير الصهيونيّة، ولذا كان من الصعب تجاهل انتقاداته بأنّها تَصْدر عن شخصيّة هامشيّة وغير مهمّة. هذا التوتُّر يظهر على نحوٍ مباشر في الرسالة التي بعث بها يادين إليه في ذلك الوقت، وادّعى فيها أنّه اطّلع على الرغم من صغر سنّه على كتابات وآراء الراب بنيامين، الأمر الذي دفعه أن يحترم "الراب بنيامين الذي لم أتعرّف عليه شخصيًّا". وفي هذا يواصل قائلًا: "لقد عارضت معارضة شديدة مواقفك بالنسبة للمشكلة العربيّة [...] ولم أستسِغْ تلميحك إلى "أيّام بيڤين" (كان بيڤين من قادة حزب العمّال البريطانيّ، وقاد آنذاك السياسة البريطانيّة التي فرضت قيودًا قاسية على هجرة اليهود إلى البلاد -المترجم) [في ما يخصّ العنف الذي مارسه الحكم العسكريّ] [...] والتلميح الذي يسعى إلى تقويض القاعدة الأخلاقيّة لنشاط جيش الدفاع الإسرائيليّ في معركته من أجل الحفاظ على حدود الدولة وعلى سكّانها" (رسالة من يـﭼـئال يدين إلى الراب بنيامين، 6.2.1951، معهد ﭼـنازيم 99).
لاحظ يادين الخيوط التي تربط بين نشاطِ الراب بنيامين السياسيّ النقديّ كمعارض داخل الحركة الصهيونيّة في مرحلة أفول الإمبراطوريّة العثمانيّة وفي فترة الانتداب البريطانيّ، ومطلبِهِ إعادة اللاجئين، حتّى في مرحلة عمله موظَّفًا في مكتب أرض إسرائيل، (أي انخراطه كشريك في النشاط الاستعماريّ الصهيونيّ)، فقد عارض الراب بنيامين وآخرون (معظم هؤلاء كانوا "سفراديم" من أبناء البلاد) مجْمَلَ المفاهيم والممارسات التي تبنّتها قيادة الحركة في كلّ ما يتعلّق بالنشاط الاستيطانيّ الاستعماريّ في فلسطين-أرض إسرائيل، ومن بينها السعي إلى خلق حيّز يهوديّ-قوميّ انعزاليّ، وفضاء جغرافيّ نقيّ (وهو ما درجت تسميته "احتلال الأرض" وَ "احتلال العمل")، أي خلق إطار مثاليّ قوميّ أحاديّ اللغة، وثقافة قوميّة "عضويّة" وَ "نقيّة".
في مقابل هذا المنهج، سعى الراب بنيامين إلى مَوْضَعة الانتماء اليهوديّ الجماعيّ للتوراة والفرائض الدينيّة، والتصوُّرات الفكريّة للتجمُّعات اليهوديّة المحافِظة في أرض إسرائيل حول الوجود اليهوديّ والأماكن المقدَّسة، كحجر أساس لوجود يهوديّ مختلف في مناطق فلسطين-أرض إسرائيل، وكجزء من نسيج يهوديّ-عربيّ مشترَك. وكانت التوراة والفرائض الدينيّة بالنسبة للراب بنيامين محور انتماء سياسيّ بديل للتوجُّهات العلمانيّة للانتماء اليهوديّ العلمانيّ الذي يرتكز على العِرق وعلى "قيم الدم والأرض"، وهو انتماء يقود في جوهره إلى مطلب سياديّ سياسيّ-قوميّ يهوديّ طاهر يرفض مبدئيًّا إمكانيّة الوجود الثنائيّ القوميّة.
المخيّلة السياسيّة الأخرى لـِ "أرض إسرائيل"
في فترة الانتداب، منح الحكم الاستعماريّ البريطانيّ رعايته للحركة الصهيونيّة، وكان بمثابة الكفيل لطموحها في بناء بيت قوميّ في فلسطين الانتدابيّة، وضرب الطموحات القوميّة الفلسطينيّة بعُرض الحائط. في إطار نشاطه في الحركات الثنائيّة القوميّة المختلفة (بْرِيتْ شالوم؛ كِدْماهْ مِزْراحا؛ عصبة التقارب والتعاون اليهوديّ-العربيّ والوحدويّ) هاجم الراب بنيامين بشدّة التحالف الصهيونيّ الاستعماريّ، علمًا أنّه كان متنبّهًا لحركة مناهضة الاستعمار العالميّة الآخذة في التوسّع، وللنحو الذي قرأ فيه الفلسطينيّون وعد بلفور، ولتأثير الثورات المناهِضة للاستعمار في سوريا وجبال الريف المغربيّة على الخطاب الفلسطينيّ.
على خلفيّة هذه النزعات بدت النزعات الاستعماريّة للحركة الصهيونيّة جليّة أكثر فأكثر. وبدلًا من انخراط الحركة الصهيونيّة في المنظومة الاستعماريّة، اقترح الراب بنيامين (استمرارًا لأقوال محمّد روشن أخطر، محرّر النسخة الإنـﭼـليزيّة لصحيفة "فلسطين") الاندماجَ داخل كيان عربيّ واسع يمتدّ من البصرة حتّى يافا"، بحيث يتطلّب اندماج كهذا توافقًا جِدّيًّا لا لإعلان بلفور من قبل المحتلّين الغرباء للبلاد، بل توافقًا بين أبناء البلاد. التوزّع على امتداد الفضاء العربيّ الكبير سيوفّر أيضًا فرصة الهجرة اليهوديّة الجماهيريّة إلى الفضاء الشرق-أوسطيّ.
نمت هذه الرؤيا بالتزامن من تقييم ثيولوجيّ-سياسيّ آخر للراب بنيامين حول العلاقة بين "الشتات" وَ "أرض إسرائيل"، وبحسب هذا التصُّور فإنّ التواجد في الدوائر الإقليميّة الفلسطينيّة يشكّل تعبيرًا عن الوجود الذي يَعتبر أرض إسرائيل مركزَه، بحيث تختلف مكانته الثيولوجيّة جوهريًّا عن التواجد في فضاءات جغرافيّة نائية. شكّل هذا الادّعاء -في ما شكّل-أساس نشاط الراب بنيامين في سنوات الحرب العالميّة الثانية في حركة "إلـ-دامي" التي عارضت سياسة "الييشوﭪ" إبّان الكارثة، علمًا أنّ هذا "الييشوﭪ" قد تأخّر في تشخيص مؤشّرات الإبادة المنهجيّة، وخلق ارتباطًا حادًّا للغاية بين مسألة الإنقاذ ومسألة السيادة، علمًا أنّ مساعي الإنقاذ قد أُخضِعَت في نهاية المطاف إلى تحقيق الطموحات السياديّة اليهوديّة في فلسطين الانتدابيّة. حذّر الراب بنيامين من حصول "قتل جماعيّ" قبل أربعة أشهر من إصدار قيادة "الييشوﭪ" بيانًا رسميًّا حول حقيقة إدراكها أنّ ثمّة إبادة تحصل في أوروبا.
العودة والأفق الثنائيّ القوميّة
في الأربعينيّات، كان الراب بنيامين صديقًا مقرَّبًا من أبناء كيبوتس كفار عتصيون، وقد كان أعضاء وعضوات "مجموعة أﭬـراهام" التي أقامت ﭼـوش عتصيون متديّنين، على غرار الراب الذي كان يرتاد في فترات متقاربة بناية الاستجمام "نيـﭬـيه عوﭬـاديا" في الكيبوتس. بعد إخلاء أولاد كفار عتصيون خلال مجزرة عام 1948، أي قبل نصف عام من سقوط الكيبوتس، جرى إحضارهم إلى بيت الراب بنيامين، ودﭬـورا ردلر فيلدمان في "بيت هَـمَعالوت" في القدس، ووصف هؤلاء هذه التجربة لاحقًا بأنّها كانت بمثابة فقاعة من الحياة الروتينيّة اليوميّة داخل فظائع الحرب. ولكنْ حتّى المذبحةُ التي حصلت في كفار عتصيون لم ينظر إليها الراب بنيامين بمعزل عن سياسة إفراغ البلاد التي قادتها المؤسَّسات الصهيونيّة: "يَذْكرون [...] خراب كفار عتصيون، لكنّهم لا ينبسون ببنت شفة بشأن مذبحة دير ياسين التي سبقت كلّ هذه الأحداث، لا بل يمنعون الحديث عنها (الراب بنيامين، "نكودوت"، نير "ج"). وادّعى الراب أنّ مجزرة دير ياسين لم تكن حدثًا وحيدًا وشاذًّا ارتكبته المنظّمات المنشقّة، بل شكّل جزءًا من سياسة منهجيّة شاملة أسماها السياسة "الدير ياسينيّة". هذا التصوُّر شكل قاعدة الانتقاد الذي وجّهه ضدّ الخطاب الإسرائيليّ الذي صوّر الفلسطينيّين الذين عادوا إلى منازلهم بأنّهم "متسلّلون"، وقام هو بعرضهم على أنّهم "مَعْپِيلِيم".
اعتبر الراب بنيامين أبناء كفار عتصيون والمعلّم النصراويّ جزءًا من واقع واحد. معارضة سياسة منع عودة اللاجئين شكّلت جزءًا من مطلب عدم نصب الوجود اليهوديّ في فلسطين-إسرائيل على ركائز استعماريّة. يبدو أنّ انتقادات الراب بنيامين في هذه الأيّام التي تكشف النقاب عن الركائز المتصدّعة للنظام الديمقراطيّ لليهود في إسرائيل تصبح مُهِمّة أكثر وأكثر في مسعاها (أي الانتقادات) إلى رسم خطوط لوجود يهوديّ جماعيّ في البلاد لا يتميّز بأنّه وجود استعماريّ. على حدّ تعبير رائف زريق، نقدُ الراب بنيامين يمكّن يهود المنطقة من تخيُّل المستقبل الذي يجرون فيه عمليّة جراحيّة تسلخ اللحم القوميّ عن الهيكل العظميّ الاستعماريّ.
في يوم الأربعاء الموافق 18.9.2023، أجريت ندوة مسائيّة على شرف صدور كتاب "التقدُّم نحو الشرق: الراب بنيامين، وثنائيّة القوميّة، والصهيونيّة المعاكسة (مركز زلمان شزار، 2023) بمشاركة د. آﭬـي رام تسوريف، مؤلّف الكتاب، وباحثين وباحثات آخرين.