القدسية والدين والعلمنة
تراجع موضوعة "القدسية والدين والعلمنة" أسئلة وتوجّهات أساسية للعلمانيّة والتديّن في سياقات نظريّة عامّة، وفي سياقات تاريخية عينيّة. تربط الموضوعة في نشاطها بين العمل البحثيّ العميق، والمستجدّ، وطويل المدى في مواضيع الدين والقدسيّة والعلمَنة وما بعد العلمانيّة، وبين تحدّيات الواقع الاجتماعيّ والدينيّ في البلاد. نعرض زوايا نظر جديدة وأجندة غير بينارية، وغير قطبية في كل ما يتعلّق بالدين والعلمَنة.
مجموعة من الأسئلة ذات الصلة بحريّة العبادة، والحق في التحرّر من الدين، وتعريف التديّن والعلمنة، هذه الأسئلة تقع اليوم في صلب النقاش الجماهيري العامّ في العالم قاطبًة. عودة الدين إلى مركز النقاش الجماهيريّ العام يضع تحّديات أمام المجتمع، ويولّد إحساسا بأنّ ثمة ما يهدّد النظام اللبراليّ والعلمانيّ. في إسرائيل، تقع هذه الأسئلة في قلب الصراعات السياسيّة والاجتماعيّة، حيث يعتبر الشرخ الدينيّ-العلمانيّ أحد الشروخ المركزيّة في المجتمع.
مع ذلك، فإنّ المفردات التي تستخدم لتحليل التديّن والعلمانية هي في العادة مفردات أحاديّة الأبعاد وتضاديّة، ويجري كذلك التعامل مع الصراع بين المتديّنين والعلمانيّين وَفق مبدأ المجموع الصفريّ (الرابح يربح كل شيء، ويخسر الخاسر كل ّشيء)، وينظر وفقه إلى إسرائيل كدولة تنزلق بسرعة في منحدرٍ حاد نحو نظام غير ديمقراطي تحكمه منظومة أخلاق دينيّة، وقوانين الشرع اليهوديّ، أو أنها تخسر تدريجيًا خصائصها كدولة يهوديّة. النّقاش حول الموضوع يجري بعادة بمفردات غير نقدية ولا يأخذ بعين الاعتبار الأبحاث حول الدين والعلمانيّة.
موضوعة “القدسيّة، والدين، والعلمنة”، تعرض سبلاً جديدةً لفهم وشرح هذه التحدّيات، ففي مقابل المفهوم التضاديّ للتّدين والعلمانية تعرض الموضوعة منهجًا يرى ما هو وراء التوتّر الفوري والمحليّ والصراعات السياسيّة، ويسعى للرّبط بين الحقل البحثيّ والنقاش الجماهيريّ العام، والتجسير على الفجوة بين التفكير النظريّ والفلسفي وبين تحدّيات الواقع الاجتماعيّ والدينيّ. تعرض الموضوعة نظرة شمولية، ومتعددة المجالات، وغير ثنائية للتوتر الديني-العلماني، وتمكّن من التفكير مجددًا بالأشكال المختلفة للعلمانيّة، والقدسيّة، والتديّن في الثقافة.
نقطة الانطلاق البحثيّة لهذه الموضوعة هي “نقد العلمنة”، حيث يدّعي هذا المنظور أنّ صعود الدين في العقدين الأخيرين يعتبر ظاهرة مركّبة وليست ذات بعد أحاديّ، وهي ظاهرة تترافق مع تعزيز النزعات الليبرالية والعلمانية في أرجاء العالم. ووفق هذا النقد تشجّع الموضوعة على تغيير التفكير حول الثقافة ما بعد العلمانيّة، وتعرض التفكير حولها كثقافة تذوب فيها الحدود – طوال الوقت – بين ما دُرج على تعريفه كتديّن، وما درج على تعريفه كعلمانيّة. ثقافة ما بعد العلمانية هي ثقافة تتغير فيها شروط العقيدة طوال الوقت، وفي المقابل تشتدّ الحاجة لدلالات وجوديّة وإحساس بالانتماء وهي أمور توفّرها الأديان.
يسعى التوجّه المتقاطع المجالات لهذه الموضوعة إلى طرح مفاهيمٍ جديدة، وإلقاء الضوء على ظواهر مختلفة تتعلّق بالدين والعلمنة وتوسيع النحو الذي درجنا على التفكير من خلاله بالجدال الدينيّ-العلمانيّ وجعله أكثر مرونة. تتمحور الموضوعة في مجالي بحثٍ أساسيّين وهما: تحليل التوتّرات بين الدين والعلمانية في مجتمع ما بعد العلمانية، والسعي الدؤوب إلى فهمها (أي التوترات) فهمًا عميقا؛ ومراجعة ظواهر نحو القدسيّة، والتفاني، والالتصاق بالهدف، والتجلّي، والقُدْسيّة في مجتمعنا المعاصر وفهم مدلولاتها في أيامنا هذه. تحليل هذه الفئات يجري بواسطة بحث تمظْهُراتها المختلفة: في الحيّز، وفي النصوص، وفي الزمن، وفي الأغراض، وفي التجارب، وفي الجسد، وفي الطقوس.
ومن بين الأسئلة التي تتناولها الموضوعة نذكر: كيف تتبدّل الديانات التقليدية، ومن يحدد ما هو الإكراه الديني؟ وماذا تبقّى (إن تبقّى) من العلمانيّة في مجتمع ما بعد العلمانيّة؟ وهل ثمة مكان لمفاهيم نحو حاجة المجموعات لـ”مُناخات دينية”، وهل يمكن معارضة هذا الامر باسم الحريّة من الدين؟ وما هي المصادر المسيحيّة لمفردتي “دين” و”علمانيّة”، وكيف تؤثر هذه المصادر اليوم على مختلف الدول القوميّة؟ وهل ما زالت هناك حاجة للتحدّث حول فصل التدين عن العلمانية، أو الدين عن الدولة، في السياق الإسرائيلي؟ وما الذي تعنيه العلمانية في صفوف الجمهور العربيّ الإسرائيلي؟ وكيف تعمل الطقوس والنصوص والتجارب والأعمال التي تنبع من التقاليد (على سبيل المثال: الختان في اليهوديّة والإسلام؛ وقبور القدّيسين والأولياء، والتمائم؛ والكلمات، والآيات، واللغة المقدسة) في العالم ما بعد العلماني؟ ما الذي يحدث عندما تتصادم العادات الدينيّة مع أيديولوجيات “مقدسة” غير تقليدية نحو حقوق الإنسان، على سبيل المثال؟ ما هي المدلولات الثقافية والسياسية المستجدة لمفردات نحو التضحية والمخافة؟